خبرني - عمّان، هذه المدينة التي أحببناها بكل ما فيها من تضاريس وتاريخ وذاكرة ودفء، تُعاني اليوم من ضيقٍ خانق في شرايينها المرورية، حتى باتت الحركة فيها مرهقة للعقل والجسد والبيئة معًا. فالشوارع مكتظة، والسيارات تزداد، والمساحات العامة تتناقص، بينما الحلول تبقى متواضعة أمام تحديات مدينة تنمو بسرعة تفوق قدرتها على التنظيم والتأقلم. نحن أمام معضلة حضرية حقيقية عنوانها الأبرز: نقص المواقف العامة، وهي المعضلة التي تغذي كل أشكال الفوضى المرورية وتشوّه المشهد الحضري لعاصمتنا الجميلة.
لقد آن الأوان أن نواجه هذا الواقع بشجاعةٍ ووعيٍ حضريٍّ مسؤول. إنّ أمانة عمّان الكبرى، التي نتفهم حجم الأعباء الملقاة على عاتقها، تمتلك اليوم فرصة ذهبية لإحداث نقلة نوعية في إدارة الفضاء العام داخل المدينة. فمنذ سنوات طويلة، تتقاضى الأمانة رسوم بدل مواقف من مشاريع الإسكان والمنشآت التي يتعذر عليها توفير المواقف المطلوبة لأسباب طبوغرافية أو تنظيمية أو تصميمية، وقد تراكمت من هذه الرسوم مبالغ ليست قليلة. ومن المنطقي، بل من الواجب الأخلاقي والتخطيطي، أن يُعاد استثمار هذه الأموال في شراء قطع أراضٍ داخل النسيج الحضري للمدينة، وتحويل صفة استعمالها إلى مواقف عامة منظمة تحمل شارة الأمانة، وتُدار بأسلوب حضاري يليق بعاصمة مثل عمّان.
إنّ المواقف ليست رفاهية، بل هي ضرورة اقتصادية وتنظيمية. فحين تتوافر المواقف العامة بأسعار رمزية ومدروسة، تتراجع الفوضى، وتتحسن انسيابية المرور، ويزداد النشاط التجاري حيوية، وتخفّ معاناة السكان والزوار على حد سواء. أما غيابها فيُغري بالاصطفاف العشوائي على الأرصفة ومداخل الأبنية، ويحوّل الشوارع إلى ساحات فوضى تُعطل حركة السير، وتُرهق أعصاب السائقين، وتزيد من التلوث البيئي والضوضاء.
المدن الذكية في العالم لم تتطور صدفة، بل بقرارات جريئة ورؤى بعيدة المدى، وضعت المصلحة العامة فوق كل اعتبار. وعمّان ليست استثناءً، لكنها اليوم بحاجة إلى إرادة تنفيذية تُدرك أن الوقت ينفد والمساحات تتناقص. فما تزال هناك أراضٍ قابلة للاستثمار في مناطق حيوية من العاصمة، لكن استمرار التردد والتأجيل سيجعلنا بعد سنوات قليلة نتحسر على فرصة ضاعت، حين لا نجد قطعة أرض واحدة تصلح لأن تكون موقفًا عامًا أو متنفسًا حضريًا.
إنّ الغيرة على المدينة ليست مجرد مشاعر عاطفية، بل مسؤولية فكرية وأخلاقية. ومن منطلق هذه الغيرة، أوجه ندائي إلى أمانة عمّان بأن تُبادر فورًا إلى إعداد خطة استراتيجية متكاملة لإنشاء مواقف عامة متعددة الاستخدامات أمام المولات والأسواق التجارية وحتى داخل الأحياء السكنية المكتظة، بحيث تُصبح هذه المواقف جزءًا من منظومة النقل العام المستدام، وتُسهم في إعادة الانضباط والراحة والنظام إلى حياة الناس اليومية.
لنمنح عمّان فرصة لتتنفس. فالمدن لا تموت فجأة، بل تختنق بصمت تحت وطأة الإهمال وتراكم التفاصيل الصغيرة غير المحسوبة. وعمّان، التي تستحق أن تبقى نابضة بالحياة، تنتظر من أبنائها الغيورين ومن مسؤوليها الواعين أن يسارعوا لإنقاذها — قبل أن لا نجد قطعة أرض واحدة نعتذر بها عن التقصير، أو نبرر بها عجزنا أمام أجيال ستسألنا: كيف تركتم مدينتكم تختنق وأنتم تنظرون؟




