*
الاحد: 07 ديسمبر 2025
  • 15 أكتوبر 2025
  • 14:57

خبرني -  

تمتلك ليبيا أكبر احتياطيات نفطية مؤكدة في إفريقيا، ويشكّل النفط أكثر من 90٪ من دخل الدولة، وهو المصدر الأساسي لتمويل الرواتب والخدمات العامة. ومع ذلك، لا تصل نسبة كبيرة من هذه العائدات إلى الخزانة العامة، نتيجة الفساد، والعقود غير الشفافة، وضعف آليات التواصل. هذه العوامل تقوّض ثقة المواطنين وتُنفّر المستثمرين.

غالبًا ما يتمحور النقاش العام حول كميات الإنتاج، إلا أن التحدي الحقيقي يكمن في الحوكمة. فالإنتاج المرتفع بلا شفافية لا يضمن العدالة ولا يحقق التنمية. الشفافية، بكل بساطة، هي خط الدفاع الأول ضد الفساد والهدر، وهي الأداة التي تضمن وصول الثروة إلى مستحقيها.

السؤال الحقيقي ليس ما إذا كانت ليبيا تمتلك موارد نفطية، بل ما إذا كانت تمتلك مؤسسات قادرة على إدارتها بكفاءة ونزاهة. في يناير 2025، أعلنت المؤسسة الوطنية للنفط، بقيادة رئيسها بالإنابة مسعود سليمان، عن التزامها بزيادة الإنتاج إلى 1.3–1.4 مليون برميل يوميًا، مع تعهّد واضح بتعزيز الشفافية. وشمل ذلك إنهاء صفقات تبادل الوقود الغامضة، واعتماد آليات أكثر انضباطًا في إدارة الموارد.

لكن الخطابات وحدها لا تكفي. التحول الحقيقي يتطلب أن تتحول هذه التعهدات إلى أنظمة مؤسسية دائمة: نشر العقود، إصدار تقارير ربع سنوية، وإنشاء جداول واضحة يمكن التنبؤ بها لمراقبة الإيرادات والإنفاق. من دون ذلك، ستظل ثقة المستثمرين هشة، وستتعمق فجوة الثقة بين المواطن والدولة.

المؤشرات الحالية مثيرة للقلق. فقد أشار ديوان المحاسبة في مراجعته لأداء المؤسسة الوطنية للنفط في منتصف عام 2025 إلى استمرار أوجه القصور في الإفصاح وإدارة العقود، مما أدى إلى خسائر تُقدّر بمئات الملايين. كما قدّر تقرير مستقل نشره موقع Maghrebi.org أن الفساد استنزف أكثر من 294 مليون دولار في النصف الأول فقط من العام ذاته، خسائر تُترجم مباشرة إلى نقص في الخدمات وتأخر في دفع الرواتب.

الغموض في إدارة القطاع لا يؤدي فقط إلى خسائر مالية، بل يُضعف ثقة الشركاء المحليين والدوليين على حد سواء. فعندما لا تُنشر العقود وتظل تدفقات الإيرادات غير واضحة، تتراجع الاستثمارات وتتفاقم الأزمات. أما الشفافية، فهي القاعدة الأساسية التي تُبنى عليها الثقة والاستقرار.

ومن الأمثلة العملية، قرار شركتي "شل" و"بي بي" العودة إلى ليبيا عام 2025 بعد التوصل إلى اتفاقيات أكثر وضوحًا مع المؤسسة الوطنية للنفط. هذه العودة لم تكن ممكنة لولا توفر معلومات أوضح وشروط تعاقدية قابلة للتدقيق.

بالنسبة للمواطنين، الشفافية ليست مطلبًا فنّيًا، بل حق أساسي. الليبيون يريدون أن يعرفوا كيف تُدار أموالهم، ومن أين تأتي الإيرادات، وأين تُصرف. نشر تقارير ربع سنوية يساهم في تبديد الشائعات، ويمنع الاستخدام السياسي للمعلومات، ويرسّخ الشعور بالملكية العامة للموارد.

الثقة، سواء داخلية أو خارجية، تُبنى على نفس الأسس: وضوح، انتظام، ومساءلة. وإذا استطاعت ليبيا أن تُظهر التزامًا حقيقيًا بهذه المبادئ، فإن ثروتها النفطية يمكن أن تتحول من مصدر نزاع إلى محرك تنمية.

وقد أثبتت التجربة الليبية أن المهنيين هم من حافظوا على تماسك القطاع النفطي خلال الأزمات. في الفترة بين 2016 و2018، ورغم الانقسامات السياسية والانهيارات الأمنية، استمرت الصادرات بفضل التكنوقراط في المؤسسة الوطنية للنفط. أحد أبرز هؤلاء كان عماد بن رجب، الذي قاد ملف التسويق الدولي وشارك في اللجنة الفنية لأوبك، وساهم في طمأنة الشركاء العالميين.

الدرس الأهم هنا: الشفافية والكفاءة لا بديل لهما. لا يمكن لمجموعة من الصفقات المؤقتة أو الوعود السياسية أن تضمن الاستقرار طويل الأمد، لكن مؤسسة تدار بكفاءة وتعمل بشفافية يمكنها أن تفعل ذلك.

إن الشفافية ليست شعارًا؛ إنها ممارسة يومية، وآلية حماية، وأداة بناء للثقة. حماية ثروة ليبيا تبدأ من هنا، من النشر، والمساءلة، والتواصل المنتظم. وعلى الدولة أن تختار: إما استمرار الحلقة المفرغة من الهدر، أو بناء نظام تُدار فيه الموارد لصالح الجميع.

نفط ليبيا ملك لشعبها. حمايته تبدأ بالوضوح.

مواضيع قد تعجبك