خبرني - في حضارات العالم كلّها، لا ينهض وطنٌ على أعمدة من إسمنت وحديد، بل على أكتاف رجال ونساء اختاروا أن يبنوا الإنسان أولًا، فبنوا به كل شيء من بعد. هؤلاء هم المعلمون. وحدهم يملكون مفاتيح العقول، وحقول القيم، ومصانع الوعي. وإن كانت الأمم تتسابق اليوم في مضمار التقنية والتقدّم، فإنّ أول خطوة في هذا السباق تبدأ من الفصل الدراسي... من المعلم.
ليس من العدالة ولا من الحكمة أن يظل المعلم — من يفترض به أن يصنع العقول — حائرًا في كيفية تأمين لقمة عيشه. لا يمكن أن نطالبه بأن يُبدع، ويبتكر، ويحضّر، ويتابع، ويطوّر أساليبه، وهو يطرق أبواب الوظائف الإضافية بعد انتهاء الدوام، أو يستدين في آخر الشهر ليكمل احتياجات بيته.
أي عطاء ننتظره من معلم يعيش قلق الراتب والحسميات؟
أي تركيز نرجوه ممن لا يجد وقتًا لمطالعة كتاب تربوي أو حضور دورة علمية؟
كيف نطلب منه أن يُخرج أجيالًا منتجة ومبدعة، بينما هو نفسه عالق في دوامة البحث عن قوته المر؟
المعلم ليس آلة لتفريغ المعلومات، بل هو إنسان، والمطلوب منه أكثر مما يُطلب من أي موظف آخر: أن يُشكّل وجدانًا، ويُربّي عقولًا، ويزرع قيَمًا، ويصنع أملًا. لذا فإن تفريغه لهذا الدور العظيم واجب وطني مقدّس، لا يُقاس بالميزانيات بل بالرؤية الحضارية بعيدة المدى.
نريد معلمًا لا ينتظر قرع الجرس ليغادر باحثًا عن عمل آخر، بل يعود إلى بيته متفرغًا للتطوير الذاتي، يقرأ، يبتكر، يتابع مستجدات العلم والتربية، ويخطط لغدٍ أفضل لأبنائنا.
المعلم هو أول من يُحمّل مسؤولية النهوض بالأمة، لكنه آخر من يُنظر في أحواله. آن الأوان لتغيير هذه المعادلة المختلّة. يجب أن يأخذ المعلم مكانة الوزير، واحترام الأمير، وحصانة السفير، لأنه يتعامل مع أهم مورد تمتلكه الدولة: العقول.
كل طفل يدخل المدرسة هو مشروع مستقبل، وكل معلم هو من يُحدّد ملامح هذا المستقبل. فإما أن نُمكّن المعلم ونُكرّمه، فنصنع وطنًا رائدًا، وإما أن نهمله، فنخسر المعركة من بدايتها.
إن أردنا تعليمًا يصنع النهضة، فليكن المعلم أول من نحسن إليه، لا آخر من نلتفت له. ولنعفِه من صراع العيش، ونفرّغه لصناعة العقول.
فحين يُكرّم المعلم... تنهض الأوطان.




