خبرني - قد ينظر البعض إلى حرب غزة كمحنة كبرى للفلسطينيين حملت في طياتها منحة معنوية لقضيتهم، وأخرجَت احتجاجات شعبية غير مسبوقة في الغرب، رفرف عليها علمٌ لم يكن ليُرفع بهذا الزخم إلا في سماء الشرق، وهتف فيها الآلاف باسم دولة لم تكن تعترف بها الكثير من الأنظمة الغربية البارزة.
فبعد مرور أكثر من قرن على إصدار بريطانيا وعد بلفور عام 1917، الذي مهد الطريق لقيام إسرائيل، بات أن الوقت "قد حان للدفاع عن حل الدولتين"، بحسب ديفيد لامي، وزير الخارجية البريطاني السابق، الذي سيمثل رئيس الوزراء في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وفي الوقت الذي انتقدت فيه إسرائيل هذه الخطوة، واصفة إياها بأنها بمثابة "مكافأة لحماس"، قال حسام زملط، رئيس البعثة الفلسطينية في المملكة المتحدة، لبي بي سي، إن الأمر يمثل "بداية تصحيح أخطاء الماضي".
فبعد فترة قصيرة من تعثر الجولة الأخيرة من مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، انضمت بريطانيا وكندا وأستراليا إلى قائمة من 10 دول، ثماني منها في أوروبا، قررت الاعتراف بدولة فلسطين أمام العالم، بعد أن كانت إسبانيا وأيرلندا والنرويج "أول الغيث" بعد اشتعال حرب غزة.
حتى وقت قريب، لم تكن كثير من دول شمال الكرة الأرضية متحمسة للاعتراف بدولة فلسطينية، وكان بإمكانها أن تؤكد باستمرار على دعمها حل الدولتين، الذي يراه كثير من المحللين بعيد المنال، من دون أن تعرّض علاقاتها مع إسرائيل والولايات المتحدة للخطر.
وجاءت حرب غزة، التي اندلعت قبل نحو عامين ولم تضع أوزارها بعد، لتحرك مياه القضية الفلسطينية الراكدة، ويشهد العالم تحولاً ملحوظاً في السياسة الأوروبية، يشير إلى أن أوروبا بدأت "ترفع الغطاء الذي وفرته للسياسات الإسرائيلية في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023"، بحسب المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – واشنطن.
وترى راشيل نيلسون، محللة شؤون الشرق الأوسط في معهد "نيو لاينز" للدراسات السياسية في الولايات المتحدة، أن ذلك يرجع إلى "حرب إسرائيل التي سوّت غزة بالأرض" من جهة، وزيادة النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية، مع بلوغ عنف المستوطنين "مستويات قياسية" من جهة أخرى.
ولقد كانت "المشاهد المروعة" التي شهدها القاصي والداني في حرب غزة، التي خلفت عشرات آلاف الضحايا، وتسببت في "كارثة إنسانية تفاقمت عمداً برفضها دخول المساعدات الإنسانية"، الشرارة التي أثارت "غضباً عارماً في جميع أنحاء العالم" لاسيما في الدول ذات العلاقات الوثيقة مع إسرائيل، التي باتت تنظر شعوبها إلى حكوماتها على أنها "متواطئة" في جرائم الحرب الإسرائيلية، بحسب نيلسون.
وأضافت نيلسون لبي بي سي أن هذا الغضب الشعبي تحول إلى "اضطراب داخلي أدى إلى زيادة الضغط على الحكومات الغربية للاعتراف بفلسطين، في محاولة لإجبار إسرائيل على تغيير سلوكها خلال الحرب والتفاوض على وقف إطلاق نار دائم".
وتقول نيلسون إن هذا هو ما دفع دولاً مثل فرنسا وبريطانيا إلى التحرك نحو الاعتراف بدولة فلسطينية، سعياً لتحقيق الاستقرار وتهدئة الاضطرابات الداخلية بسبب معاناة الفلسطينيين.
وقد أسفرت حرب غزة، التي لا تزال تدور رحاها حتى الآن، عن مقتل أكثر من 65 ألف فلسطيني وإصابة أكثر من 166 ألفاً بحسب وزارة الصحة في غزة، بعد هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، الذي أدى إلى مقتل نحو 1200 شخص، واختطاف 251 رهينة.
جاء في تقرير معهد أبحاث السلام في أوسلو تحت عنوان "أهمية الاعتراف بفلسطين حتى في ظل الاحتلال"، أن هناك "تنامياً لوعي الدول الأوروبية بأن فكرتها عن دبلوماسية السلام التي تعتمد على الاكتفاء بتأكيد الالتزام بحل الدولتين، لم تُحقق سوى القليل".
وأضاف التقرير أن الاعتراف بفلسطين كدولة جاء من باب استخدامه كوسيلةٍ لبدء المفاوضات، فالاعتراف "يجب أن يعزز الأمل في حل ممكن"، مستشهداً بما قاله الباحث السياسي الفلسطيني أمجد أبو العز، عن أن اعتراف إسبانيا وأيرلندا والنرويج، قبل الموجة الحالية، كان بمثابة "كرة ثلج تتدحرج نحو دول أخرى".
وعلى الرغم من اعتراف 147 دولة بالفعل بالدولة الفلسطينية، فإن موجة الاعترافات الأخيرة ضمّت ثلاث دول من مجموعة السبع الصناعية الكبرى وهي: بريطانيا وكندا وفرنسا.
وتقول الدكتورة جولي نورمان، الباحثة في المعهد الملكي للخدمات المتحدة في بريطانيا، إن كون فرنسا وبريطانيا عضوين دائمين في مجلس الأمن الدولي يُعزّز الأهمية الدبلوماسية لهذا الإعلان.
وجاء في تقريرها الذي حمل عنوان "لماذا من المهم الاعتراف بفلسطين"، أن هذا الاعتراف سيُحسّن وضع الفلسطينيين في أي محادثات مستقبلية، "من خلال تغيير التسلسل المُتعارف عليه منذ زمن طويل، الذي يُحدد الاعتراف بالدولة كنقطة نهاية لا نقطة بداية".
فبدلاً من مناقشة الخطوات التي قد تُفضي أو لا تُفضي إلى دولة فلسطينية، ستُعد مسألة الدولة أمراً مفروغاً منه، مع تركيز المفاوضات على كيفية تشكيلها بما يضمن كرامة وأمن كلا الشعبين، بحسب نورمان.




