خبرني - كتبت الدكتورة ميساء المصري
كتبت الدكتورة ميساء المصري -في عصر 18 أيلول/سبتمبر 2025 انزلقت الجغرافيا السياسية بين الأردن والضفة الغربية إلى منحنى خطير لم يكن متوقعًا بهذا الشكل المفاجئ عملية مسلّحة استهدفت إسرائيليين عند معبر اللنبي أسفرت عن مقتل اثنين وجرح آخرين لتتحول فورًا إلى أكثر من مجرد حدث أمني إذ سرعان ما وظفتها إسرائيل كمحفّز لإطلاق المرحلة الثانية من مشروع "الحارس الجديد" وهي مرحلة لم يكن يجري الحديث عنها صراحة لكنها كانت قيد الإعداد بصمت منذ نهاية الحرب على غزة 2024 المشروع الذي بدأ في جنين كتكتيك أمني لإحتواء العمليات المسلحة ،تحوّل الآن إلى استراتيجية سيادية لإعادة ترسيم حدود السيطرة الإسرائيلية بشكل فعلي وليس قانوني بما يشمل كامل الشريط الحدودي الشرقي وامتداد الأغوار.
لكن ما الذي يجعل من هذه العملية الصغيرة بهذا التأثير الكبير؟ الإجابة تبدأ من فهم موقع معبر الكرامة نفسه فهو ليس مجرد ممر حدودي بل نقطة سيادية ثلاثية تتقاطع فيها صلاحيات الأردن والسلطة الفلسطينية وإسرائيل وعلى مدار عقود كان هذا المعبر ورقة حساسة في معادلة التوازنات غير المُعلنة بين عمان وتل أبيب من جهة وبين رام الله وتل أبيب من جهة أخرى ولذلك فإن أي حادث فيه لا يُقرأ أمنيًا فقط بل سياسيًا وسياديًا ووجوديًا بالمعنى الكامل للكلمة.
بعد العملية أعلنت إسرائيل إغلاق المعبر من طرفها فقط وهو إجراء يبدو تقنيًا لكنه في الواقع إعلان عن السيطرة الأحادية على نقطة حساسة تقع فعليًا بين ثلاث جهات وهو ما يُعد أول تطبيق عملي لمبدأ "إعادة تعريف السيطرة الأمنية" الذي يمثل جوهر مشروع "الحارس الجديد" فما هو هذا المشروع تحديدًا؟
انه انتقال من عقيدة "الردع السلبي" إلى "الاحتواء الهجومي" عبر دمج التقنيات الحديثة مع وحدات النخبة والانتقال من سياسة الرد إلى سياسة التمركز والسيطرة وتوسيع ما يسمى "الحيّز الأمني النشط" ليشمل مناطق لم تكن مشمولة سابقًا بالمراقبة المباشرة وهذا ما نشهده الآن بوضوح في أريحا والتي تم تحويطها حالا بعد العملية حيث دخلت دائرة المراقبة الميدانية بشكل مكشوف لأول مرة منذ توقيع اتفاق أوسلو.
تذكروا جيدا ما يحدث الآن في تخوم أريحا لا يقل خطورة عما حدث في جنين أو نابلس خلال السنوات الماضية إذ بات واضحًا أن إسرائيل قررت استغلال هجوم المعبر اليوم كغطاء سياسي لتوسيع حضورها الميداني عبر أدوات عسكرية استخباراتية وأمنية مرنة لا تقوم على احتلال مباشر بل على تموضع تكتيكي دائم يفرض أمرًا واقعًا جديدًا يمكن تسميته بـ "الضم الأمني الزاحف" في منطقة أغوار فلسطين وهو ضم لا تعلنه تل أبيب قانونيًا كي لا تثير العاصفة السياسية الدولية بل تنفذه عبر خطوات محسوبة ممنهجة تحت عنوان "تعزيز الحماية الأمنية".
ومع تمركز وحدات إسرائيلية قرب أريحا بذريعة حماية المعبر بدأت المعادلة الأمنية في الأغوار تتحول بشكل ملموس، إذ تشير المعلومات المتقاطعة إلى انتشار وحدات مثل "دوفدوفان" و"إيتان" و"8200" بالإضافة إلى طائرات استطلاع مسيرة تعمل بشكل مستمر على مراقبة الطرق المؤدية للمعبر والبوابة الشرقية لأريحا وهو ما يعني عمليًا أن أريحا باتت مكشوفة أمنيًا وخاضعة لرقابة إسرائيلية لحظية في مشهد يعيد إلى الأذهان السيناريوهات التي عاشتها جنين من قبل لكن بأدوات أكثر خفاءً وفاعلية إذن لنستوعب حجم العملية ثم عملية الالهاء بضرب لبنان .
ستضغط تل ابيب الآن لفرض تنسيق أمني أوسع تحت ذريعة منع عمليات مشابهة مستقبلاً وستطلب بشكل غير مباشر إدخال التكنولوجيا الإسرائيلية إلى منظومة مراقبة الحدود وهو أمر خطير تعتبره إسرائيل ضرورة أمنية بحكم "الواقع الجديد".
السلطة الفلسطينية بدورها في موقف لا تُحسد عليه إذ تجد نفسها تدريجيًا خارج المعادلة فيما يتعلق بأريحا ومعبر الكرامة فالوحدات الإسرائيلية باتت تتحرك في محيط المدينة دون تنسيق حقيقي مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي أصبحت نظريًا مسؤولة لكنها عمليًا عاجزة عن الفعل أو المنع وهو ما يكرس تحول أريحا إلى منطقة رمادية لا تخضع لأي سيادة فعلية فلسطينية بينما تتحول تدريجيًا إلى ممر أمن إسرائيلي ضمن ما يسمى "الحزام الشرقي".
هذا الحزام الذي يبدأ من بيسان شمالًا ويصل إلى البحر الميت جنوبًا و كان دومًا هدفًا استراتيجيًا للقيادة العسكرية الإسرائيلية وتعتبره القيادة السياسية بمثابة خط الدفاع الأول في حال اندلاع صراع إقليمي ولذلك فإن إسرائيل ستستغل الآن أي حادث حدودي لتبرير عسكرة هذا الحزام وتفعيله ميدانيًا والسيطرة أعمق بعد أن ظل لعقود مجرد مفهوم نظري واليوم مع حادثة اللنبي سيبدأ هذا الحزام ليتحول إلى واقع عبر وحدات تكتيكية متمركزة وأبراج مراقبة قيد التثبيت واتفاقات أمنية جديدة تُبنى في الخفاء ومستوطنات يتم العمل على انشاءها.
أبعد من ذلك هناك ما هو أخطر إذ تشير بعض المؤشرات إلى نية إسرائيل اقتراح نظام "إدارة أمنية مزدوجة" لمعبر الكرامة وهذا في حال حدوثه سيكون تغييرًا جذريًا في وضعية المعبر الذي ظل لسنوات رمزًا للدور الأردني في الضفة ومحورًا أساسيًا في العلاقات الفلسطينية–الأردنية .
والنتيجة أن معبرًا كان يُفترض أن يكون بوابة عبور للفلسطينيين سيتحول اليوم إلى رأس حربة في مشروع توسع أمني إستيطاني إسرائيلي يتقدم بخطى ثابتة نحو إعادة هندسة الضفة من شرقها دون ضم قانوني بل عبر سيطرة عملية مدروسة تصنع على الأرض وقائع لا يمكن التراجع عنها لاحقًا.
وفي ظل الصمت الدولي المعتاد تحت ذريعة "مكافحة الإرهاب" والضغط الأميركي المستمر لفرض الاستقرار ولو على حساب القانون الدولي فإن ما يجري في تخوم أريحا ليس مجرد تحرك تكتيكي بل هو نقطة تحوّل هيكلية في التوازن الأمني والسياسي في الضفة وهي المرحلة الثانية من "الحارس الجديد" التي ستعرف لاحقًا بأنها بداية تغيير قواعد اللعبة كلها في الشرق الاوسط.




