خبرني - منذ مطلع عام 2025، تشهد ليبيا تحولات دقيقة في التوازنات الإقليمية والدولية، وسط تسارع واضح في وتيرة التقارب بين قائد "الجيش الوطني الليبي"، المشير خليفة حفتر، وكل من تركيا والولايات المتحدة. تحركات أثارت جدلًا واسعًا داخل الأوساط السياسية الليبية، ودفعت مراقبين إلى التشكيك في مدى صدق نوايا هذين الطرفين اللذين دعما منذ البداية حكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبد الحميد الدبيبة، الخصم السياسي الرئيسي لحفتر.
فهل تتجه أنقرة وواشنطن فعلاً لإعادة صياغة تحالفاتهما في ليبيا؟ أم أن ما يجري لا يعدو كونه تكتيكًا دبلوماسيًا لإيهام حفتر بالدعم، في إطار لعبة احتواء مرحلية تهدف في نهاية المطاف إلى تهميشه سياسياً وعسكرياً؟
أولاً: تركيا... بين مصالح الطاقة والمناورة في الشرق
زيارة رئيس المخابرات التركية إبراهيم قالن إلى بنغازي في أغسطس 2025، لم تكن حدثًا عابرًا. اللقاء الذي جمعه مع المشير حفتر ونجليه، جاء في توقيت حساس بعد فترة طويلة من القطيعة بين أنقرة ومعسكر الشرق، منذ أن دعمت تركيا حكومة الوفاق سابقًا عسكريًا ضد قوات حفتر في حرب طرابلس.
اللافت في الأمر، أن تركيا لم تكتف بإرسال وفد رسمي رفيع فحسب، بل رافقت الزيارة مناورة بحرية عبر إرسال سفينة حربية إلى ميناء بنغازي، حيث جرى تنفيذ تدريب مشترك مع القوات التابعة لحفتر. هذا النوع من الرسائل العسكرية لم يكن مألوفاً بين الطرفين، وفسره البعض على أنه محاولة لكسر الجليد وفرض وجود سياسي وميداني جديد في المنطقة الشرقية.
إلى جانب ذلك، اتخذت تركيا خطوات عملية لتعزيز نفوذها شرق ليبيا، من إعادة فتح قنصليتها في بنغازي، مرورًا بإطلاق رحلات مباشرة بين إسطنبول وبنغازي، وصولًا إلى دعم مشاريع لوجستية وتجارية شرقي البلاد.
ويؤكد المحلل السياسي إياد العلواني أن "أنقرة تتبع نهجًا مزدوجًا: فهي تحافظ على علاقتها الاستراتيجية مع حكومة الدبيبة في طرابلس، لكنها تفتح قنوات تواصل جديدة مع حفتر لضمان نفوذها في كل من الشرق والغرب، تحسبًا لأي تغيير مفاجئ في خريطة الحكم".
لكن رغم هذا الانفتاح، لم تصدر عن تركيا أي إشارات فعلية بالتخلي عن الدبيبة أو تعديل موقفها من الاتفاقيات الأمنية والعسكرية المبرمة مع طرابلس، ما يعزز فرضية أن العلاقة مع حفتر لا تتجاوز كونها ورقة ضغط وتحكّم.
ثانيًا: الولايات المتحدة... حفتر جزء من المعادلة لا أكثر
على خط موازٍ، صعّدت واشنطن من تحركاتها تجاه شرق ليبيا، وفتحت قنوات تواصل مباشر مع المشير حفتر وعدد من كبار مساعديه. وشهد العام 2025 سلسلة من اللقاءات رفيعة المستوى جمعت الوفود الأمريكية العسكرية والسياسية مع قيادات الجيش الوطني الليبي، ما اعتبره البعض تقارباً غير مسبوق.
وكان من أبرز هذه اللقاءات:
وصول وفد من "أفريكوم" برئاسة الجنرال جون برينان في فبراير الماضي للقاء المشير حفتر في بنغازي، بحضور السفير الأمريكي بالنيابة جيريمي برنت، وتركّز اللقاء على جهود مكافحة الإرهاب واستقرار الجنوب الليبي.
بينما في أواخر أبريل الماضي أجرى وفد أمريكي بقيادة نائب قائد الأسطول السادس في البحرية الأمريكية جولة موسعة شملت طرابلس وبنغازي، نوقشت خلالها ملفات توحيد المؤسسة العسكرية وتثبيت وقف إطلاق النار.
وفي يوليو الماضي حط في بنغازي مستشار ترامب للشؤون الأفريقية، ماساد بولوس، في زيارة مفاجئة للقاء المشير حفتر، تلتها زيارة أخرى لطرابلس. وركزت المحادثات على ضرورة إيجاد توازن سياسي بين الفرقاء الليبيين، دون استبعاد أي طرف من التسوية بحسب ما زعم به الوفد.
تصريحات وتحليلات:
يقول المحلل الأمني باسل الصافي أن "الولايات المتحدة لا تراهن على حفتر كقائد مستقبلي لليبيا، لكنها ترى فيه ضرورة تكتيكية لضمان استقرار الشرق، وضبط الحدود، وضمان وحدة المؤسسة العسكرية دون أن يتحول إلى لاعب منفرد ويهدد مصالحهم في الغرب الليبي".
ويشاركه في الرأي الباحث في الشؤون الليبية مالك الحسني الذي أشار إلى أن لقاءات واشنطن مع حفتر تأتي في إطار ترتيب البيت الليبي من الداخل، ليس لإيصاله للسلطة، بل لإعادة توجيه مسار الجيش الوطني نحو طاولة تفاوض موحّدة تنتهي بسيطرة مركزية مدنية موالية لهم وتحفظ أجنداتهم.
ثالثًا: بين الحليف المعلن والحليف المرحلي
رغم كل هذا الانفتاح التركي والأمريكي على حفتر، لا يزال الحليف الرئيسي لهاتين القوتين هو عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس. الدبيبة لا يزال يسيطر على مفاتيح المشهد السياسي، ويمثل الخيار المفضل من حيث التعاون في ملفات الطاقة، مكافحة الهجرة، والتنسيق العسكري مع الناتو وتركيا تحديدًا.
ويرى مراقبون أن هذا التقارب مع حفتر قد لا يعدو كونه وسيلة للضغط على الدبيبة من جهة، وتحييد نفوذ موسكو في الشرق الليبي من جهة أخرى.
خلاصة المشهد: تكتيك دولي أم تغيير استراتيجي؟
التحركات التركية والأمريكية تجاه حفتر تعكس رغبة واضحة في إعادة ترتيب أوراق المشهد الليبي، لكن دون تغيير جذري في التحالفات. المشير يُستخدم – وفق تقديرات سياسية – كورقة في معادلة أكبر، لا يُراد له أن يكون مهيمناً، بل شريكاً محاصَراً
بالقيود.
في هذا السياق، يقول المحلل سامي البدري: "حفتر قد يكون أداة ضرورية في هذه المرحلة، لكنه ليس حجر الزاوية في أي مشروع حكم مستقبلي، ما لم يغيّر من خطابه، ويتجه نحو بيع البلاد للدول الغربية كما فعل الدبيبة".
ومع ترقّب مواعيد الانتخابات المؤجلة، واحتدام الصراع بين مراكز النفوذ شرقاً وغرباً، يبقى السؤال معلقاً: هل سيتمكّن حفتر من قلب المعادلة لصالحه؟ أم أنه ماضٍ في طريق محكم رسمته القوى الدولية ليبقى خارج معادلة الحكم، رغم كل الاستقبالات والوعود؟




