خبرني - في ظل التحديات السياسية، والاقتصادية، والثقافية التي عصفت بالعالم العربي خلال العقود الأخيرة، أصبحت مسألة إعادة بناء المجتمعات العربية ضرورة وجودية وليست خيارًا. فالعديد من المجتمعات العربية تعرضت لهزات عنيفة، سواء بسبب الحروب، أو الانقسامات الطائفية، أو الاستبداد، أو التهميش الاجتماعي، مما أدى إلى تفكك البنى المجتمعية التقليدية، وضعف الحس الجمعي، وغياب الرؤية المستقبلية المشتركة. ومن هنا، تبرز الحاجة الملحة لبناء مجتمعات عربية جديدة، ترتكز على أسس حضارية مدنية تضمن الاستقرار، العدالة، والكرامة الإنسانية.
المجتمع المدني هو الفضاء الذي يتحرك فيه الأفراد بحرية، خارج سلطة الدولة وخارج هيمنة الانتماءات الضيقة، ليؤسسوا جمعيات، ومنظمات، ومبادرات تعبر عن تطلعاتهم، وتخدم الصالح العام. أما الأساس الحضاري فهو ما يرتكز على تراكم ثقافي وقيمي يعزز من كرامة الإنسان، ويحتفي بالتنوع، ويؤمن بالعلم، ويُعلي من شأن الحوار والعقلانية. بناء مجتمع عربي حضاري مدني يعني ببساطة: إعادة الاعتبار للإنسان كمحور أساسي في أي مشروع نهضوي، بعيدًا عن منطق التسلط أو الاستبعاد.
قبل الشروع في البناء، لا بد من تفكيك أسباب التفكك. فالاستبداد السياسي جعل الولاء للنظام يسبق الولاء للوطن، وضعف مؤسسات التعليم والثقافة أدى إلى شيوع الجهل والاتكالية، والانقسام الطائفي والعرقي والقبلي زاحم الهوية الوطنية الجامعة، والاعتماد على الخارج أفقد المجتمعات استقلاليتها، وتهميش المرأة والشباب أفرغ المجتمعات من طاقتها الحقيقية.
لإعادة البناء، يجب أن تكون المواطنة الكاملة هي الرابط الأعلى بين الناس، بحيث تضمن الحقوق والواجبات المتساوية وتحمي الجميع تحت مظلة القانون. كما أن العدالة الاجتماعية ضرورية لتوزيع الثروة وتكافؤ الفرص، وفصل السلطات وبناء دولة القانون ركيزة أساسية لأي مجتمع مدني حقيقي. ولا يمكن الحديث عن أي نهضة دون تعليم حديث يحرر العقول ويزرع قيم التفكير النقدي والتسامح والمبادرة. كما أن تمكين المرأة والشباب ليس خيارًا، بل ضرورة استراتيجية، فهم صناع التغيير وأدواته الفاعلة.
لكن التنظير وحده لا يكفي. لا بد أن ننتقل من القول إلى الفعل، ومن التخطيط إلى التنفيذ، عبر مبادرات مجتمعية صادقة تنطلق من القاعدة، وتتبناها نخب واعية قادرة على القيادة. نحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية تتبنى هذا التحول، لا أن تقف في وجهه، وإلى بيئة تشريعية ومؤسسية تدعم البناء لا أن تهدمه.
إعادة بناء المجتمعات العربية على أسس حضارية مدنية ليست حلمًا مستحيلًا، لكنها مشروع أجيال، يتطلب وعيًا جمعيًا، واستثمارًا في الإنسان، ومواجهةً شجاعة لإرث من الانقسامات والإقصاء. المجتمعات لا تُبنى فقط بالقوانين، بل بالقيم؛ لا تُبنى فقط بالسياسة، بل بالثقافة والتربية والإيمان بالمستقبل. فهل نبدأ اليوم؟ أم ننتظر انهيارًا أكبر لندرك أننا تأخرنا كثيرًا؟




