خبرني - د. رأفت البيايضة
ليست كلّ القصص تُكتب لتُثير الحزن، ولا تأتي كلّ المواقف لتكسرنا. أحيانًا، تنقلب اللحظة من محنة إلى منحة، ومن وجع إلى وعي... وذاك ما حدث معي.
منذ أيام، كنت أقود سيارتي في طريق العودة إلى البيت، أبتعد عنه نحو عشرة كيلومترات، حين جاءني اتصال أربكني: أحد أطفالي يُعاني من نوبة ربو حادّة واختناق مفاجئ. لم تكن المكالمة طويلة، لكن وقعها كان كالصاعقة. في لحظة، انكمش كل شيء من حولي... صخب الشارع، ضجيج الحياة، حتى الزمن بدا لي متجمّدًا، لا يتحرّك.
أمسكت الهاتف، واتصلت على الفور بالدفاع المدني، وانطلقت بجسدي، لكنّ روحي سبقتني. دقائق مرت كأنها دهور، والدماء في عروقي تركض أسرع من عجلات السيارة. لم أكن أفكر بشيء إلا وجه طفلي... وأنفاسه.
لكنّ ما صدمني – هذه المرة إيجابيًا – كان عند وصولي.
وقفت أمام المنزل، لأجد رجال الدفاع المدني قد سبقوني.
لم أنتظرهم، بل سبقوني هم!
كانوا هناك، أمام باب بيتي، بكامل جاهزيتهم، يحملون طفلي بحنانٍ وكأنه طفلهم. لم أسمع منهم سوى كلمات طمأنينة، ولم أرَ في عيونهم إلا إحساس الواجب والانتماء.
تم نقله بسرعة إلى المستشفى، وتلقّى الرعاية كاملة. وبعد أن استقرّت حالته بفضل الله، جلست أُحدّق من بعيد... ليس فقط في طفلي، بل في الصورة الكاملة.
حينها سألت نفسي بصوت داخلي:
كم مرة شكرنا الله حق الشكر؟
كم مرة أدركنا أننا في وطن لم يعرف الهروب من الخيام، ولا اللهاث وراء الأمن؟
كم مرة نظرنا حولنا ورأينا الجحيم الذي يعيشه غيرنا، ومع ذلك نعيش متذمرين من ترف الاعتياد؟
نعم، نحن في الأردن بخير، وأكثر.
قد نواجه بعض الصعوبات الاقتصادية، قد نتأفف أحيانًا من واقع اجتماعي غير مثالي، لكن المقارنة وحدها كافية لتعيد إلينا رشدنا.
فانظر حولك... إلى شعوب هُجّرت، وأطفال نشأوا في الخوف، ومخيمات لم تعرف الدفء ولا الأمان. انظر إلى أمهات يلدن على أرصفة الطرقات، ومدارس تُقصف، ومستشفيات تُغتال فيها الإنسانية كلّ يوم.
في الأردن، لم نُطارد في بيوتنا، ولم نرَ الجيوش تُطوّق أحياءنا.
منذ تأسيس الدولة، ونحن ننعم بجهاز أمني يحمي لا يُرعب، وبكوادر دفاع مدني تسبق الحوادث لا تلهث خلفها، وتعليم قائم، يصنع جيلًا واعيًا، لا منسيًا.
والأردني، والحمد لله، لم يكن لاجئًا. وهذه ليست تقليلاً من كرامة أحد، بل هي اعتراف بنعمة كبيرة أن نحيا فوق أرضنا، نحمل هويتنا، نعرف القانون ونعيش في كنفه.
مَن لا يرى هذه النعمة، فلينظر خارج الحدود.
أشكر من قلبي كوادر مديرية الامن العام و الدفاع المدني – خصوصًا في الكرك – الذين جسّدوا المعنى الحقيقي للإنسانية والمسؤولية. لا ينتظرون كاميرا لتُصوّرهم، ولا شكرًا من أحد، بل يفعلون ذلك لأنهم أبناء هذه الأرض، كما نحن.
دعونا لا نسمح لضعاف النفوس والمتشائمين أن يُطفئوا نور الوعي فينا. دعونا نُحسن الظن بوطننا، وننتصر للمصلحة العامة، ونعضّ بالنواجذ على النعم التي نعيشها.
لأننا... بدون هذا الوطن، لا شيء.




