*
الاربعاء: 10 ديسمبر 2025
  • 13 تموز 2025
  • 11:56
الثقافة والسيادة لماذا يجب أن تكون وزارة الثقافة وزارة سيادية
الكاتب: الدكتور زيد احمد المحيسن

خبرني - في زحام التعريفات الإدارية والتصنيفات السياسية، تُفرز الوزارات في أغلب الدول إلى "سيادية" و"خدمية"، ويُقصد بالسيادية تلك الوزارات التي تمسّ صميم القرار السياسي والأمن القومي، مثل الدفاع، الداخلية، الخارجية، والعدل. أما الوزارات الأخرى، فتُصنّف غالبًا بوصفها "غير سيادية"، أي أقل تأثيرًا في ميزان الحكم والدولة. غير أن هذا التصنيف، وإن كان له ما يسنده تقليديًا، إلا أنه يُغفل عنصراً حيويًا لا يقلّ أهمية، بل قد يفوق كل تلك الوزارات تأثيرًا على المدى البعيد: الثقافة.
إن دولة بلا ثقافة، كجسد بلا روح، أو كأمة بلا بوصلة. قد تحوز الدولة على أقوى الجيوش، وأعتى أجهزة الأمن، لكنها تظل هشة من الداخل إن لم تمتلك وعيًا جمعيًا متماسكًا، وهويةً ثقافيةً راسخة، ورؤية فكرية واضحة توجه مسارها وتشكّل وعي أبنائها. من هنا، نطرح السؤال الجوهري: أليس من الأولى أن تُصنّف وزارة الثقافة ضمن الوزارات السيادية؟ بل أليست هي الضامن الأول لسيادة العقل والوجدان؟
في عصر الحروب الناعمة، لم تعد المعارك تُخاض فقط في ميادين القتال، بل في ساحات الوعي، ومنصات الإعلام، وقنوات التعليم، وأساليب التفكير. الغزو الثقافي أخطر من الغزو العسكري، لأنه يتسلل بصمت، ويستقر في العقول دون مقاومة، فيحوّل الأفراد إلى مستهلكين لفكرٍ دخيل، وسلوكٍ مستورد، ورؤيةٍ تابعة. من هنا، تصبح الثقافة أمنًا قوميًا فكريًا، ووزارة الثقافة خط الدفاع الأول عن الوعي الوطني.
إن وزارة الثقافة ليست مؤسسة للفعاليات والمهرجانات وحسب، بل يجب أن تكون مركزًا استراتيجيًا لتشكيل الرؤية الفكرية للدولة، ودعم الإنتاج المعرفي، وحماية اللغة والهوية، وإحياء التراث، وتعزيز الفنون الراقية التي ترتقي بالذوق وتغذّي الضمير. إن تجاهل البُعد الثقافي في التخطيط الاستراتيجي، هو كمن يبني بيتًا بلا أساس.
في واقعنا العربي، تهميش الثقافة كارثة صامتة. نرى كثيرًا من الدول تدفع المليارات في تسليح الجيوش، بينما تترك مؤسسات الثقافة تموت اختناقًا بالإهمال أو تُستخدم لأغراض شكلية لا تمسّ عمق المجتمع. بل الأدهى أن يُنظر إلى الثقافة كمجرد ترف أو تزيين للمشهد السياسي، بينما هي في حقيقتها الركيزة الخفية لأي نهضة حقيقية.
نعم، إن "الرأس بلا عقل مأساة، والدولة بلا وعي كارثة". وعقل الدولة هو ثقافتها، ووعيها هو ما تنتجه من فكر وتربية وفن. فإن أردنا نهضة حقيقية لا تُختطف، وبنية وطنية لا تهتزّ، فعلينا أن نعيد الاعتبار إلى الثقافة، لا كمجرد وزارة، بل كملف سيادي مصيري.
إن تحويل وزارة الثقافة إلى وزارة سيادية ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة استراتيجية. سيادة الأوطان تبدأ من سيادة العقل، والسيطرة على المصير تمرّ أولاً من السيطرة على الوعي..

مواضيع قد تعجبك