*
الثلاثاء: 09 ديسمبر 2025
  • 11 تموز 2025
  • 18:35
الحق في النسيان كضمانة رقمية للكرامة الإنسانية دراسة تحليلية مقارنة بين القانون الأردني والقانون الأوروبي
الكاتب: المحامي الدكتور ربيع العمور

خبرني - لم تعد الخصوصية مجرد مفهوم قانوني كلاسيكي مرتبط بالحيّز المادي للإنسان، بل باتت تمتد إلى الفضاء الرقمي، حيث تتراكم البيانات الشخصية وتتداولها الجهات والمنصات دون انقطاع. وفي ظل هذه التحوّلات، ظهر "الحق في النسيان" كحق رقمي حديث يُتيح للفرد أن يستعيد سيطرته على وجوده الرقمي من خلال طلب حذف بياناته أو إلغاء الروابط التي تمسّ كرامته أو لم تعد ملائمة أو دقيقة.

لقد فرض هذا الحق تحدياً جدلياً بين الكرامة الرقمية وحرية التعبير، بين حق الفرد في النسيان وحق المجتمع في التذكر، ما استوجب تأصيله وتحليله في سياق المقارنة بين التشريعات الأوروبية، التي قطعت شوطاً كبيراً في تنظيمه، والتشريعات الأردنية التي ما زالت تفتقر إلى الإقرار الصريح به.

أولاً: مفهوم الحق في النسيان وتأصيله القانوني

يُعرّف "الحق في النسيان الرقمي " بأنه تمكين الفرد من طلب محو بياناته الشخصية أو روابط إلكترونية تحتوي على معلومات قديمة أو ضارّة به، خاصة في حال انتفاء المصلحة المشروعة لبقائها منشورة.

وقد أفرز هذا الحق تطوراً في النظر إلى الخصوصية، فلم يعد مقتصراً على منع النشر، بل امتد ليشمل الحق في حذف ما سبق نشره. ويُعتبر فقهياً من الحقوق الرقمية الحديثة، وهو امتداد طبيعي لحقوق الإنسان الكلاسيكية، خاصة الحق في الكرامة والخصوصية.

وقد تأسس هذا المفهوم بدايةً عبر الاجتهاد القضائي الأوروبي، قبل أن يجد تأصيلاً تشريعياً في المادة (17) من اللائحة العامة لحماية البيانات الأوروبية (GDPR)، التي نصّت صراحة على "الحق في المحو – Right to Erasure".

ثانياً: الحق في النسيان في القانون الأوروبي

1. في لائحة GDPR الأوروبية

تُعدّ اللائحة الأوروبية العامة لحماية البيانات (GDPR) الصادرة سنة 2016 أول تشريع دولي متكامل يعترف بالحق في النسيان الرقمي. وقد نصّت المادة (17) منها على حالات تمكّن الأفراد من المطالبة بحذف بياناتهم، ومن أبرزها:

إذا لم تعد البيانات ضرورية للغرض الذي جُمعت من أجله.

إذا سحب الفرد موافقته على المعالجة.

إذا كانت البيانات قد عولجت بشكل غير قانوني.

إذا كان حذف البيانات ضرورياً للامتثال لالتزام قانوني.


وقد قيّدت اللائحة هذا الحق ببعض الاستثناءات، خاصة عندما تكون هناك مصلحة عامة، أو ضرورة لتوثيق قانوني، أو ممارسة لحرية التعبير.

وكان لحكم محكمة العدل الأوروبية في قضية Google Spain v. AEPD & Costeja González عام 2014 دور محوري في ترسيخ هذا الحق، حيث ألزمت المحكمة شركة Google بحذف روابط تتضمن بيانات شخصية قديمة وغير ملائمة لطرف خاص، مؤكدة أن الحق في الخصوصية قد يتفوّق على حق الجمهور في الوصول للمعلومة، في ظروف معينة.

2. في القانون الفرنسي

يُعدّ النظام القانوني الفرنسي من أكثر الأنظمة تطوراً في تكريس الحق في النسيان على المستوى الوطني. فقد أدرجت فرنسا هذا الحق صراحة في المادة 40 من قانون المعلومات والحريات (Loi Informatique et Libertés)، التي تمنح الأفراد الحق في طلب محو بياناتهم الشخصية في حال انتفاء مبررات الاحتفاظ بها.

وقد لعبت الهيئة الفرنسية لحماية البيانات CNIL دوراً محورياً في تفعيل هذا الحق، حيث ألزمت محركات البحث مثل Google بالامتثال لطلبات الإزالة، ودخلت في نزاع قضائي بارز حول توسيع نطاق الحذف ليشمل جميع النطاقات (Global delisting)، وليس فقط داخل فرنسا أو الاتحاد الأوروبي.

ويُعد هذا النموذج مثالاً على التفعيل المؤسسي المتكامل للحق في النسيان، مع مرونة قضائية وإدارية لضبط التوازن بين الخصوصية وحرية الإعلام.

ثالثاً: الحق في النسيان في القانون الأردني

رغم إقرار الأردن لقانون حماية البيانات الشخصية رقم 24 لسنة 2023، إلا أن هذا القانون لم ينص صراحةً على "الحق في النسيان الرقمي"، ولم يتضمن آلية لطلب محو البيانات أو إزالة المحتوى الرقمي المؤرشف من محركات البحث أو قواعد البيانات.

ويُلاحظ أن البيئة التشريعية الأردنية تفتقر إلى ما يلي:

تعريف صريح للحق في النسيان.

تمييز واضح بين أنواع البيانات ومدى مشروعيتها في البقاء.

مرجعية قضائية أو إدارية متخصصة للنظر في هذا النوع من الطلبات.


ومع ذلك، يمكن رصد بعض النصوص التي تمهّد لهذا الحق بشكل غير مباشر، مثل:

المادة 7 من الدستور الأردني التي تنص على أن "الحرية الشخصية مصونة".

المادة 16 من قانون الجرائم الإلكترونية التي تُجرّم نشر البيانات الشخصية دون إذن.

النصوص العامة في قانون حماية البيانات بشأن شروط الجمع والمعالجة.

لكن جميع هذه النصوص لا ترقى لتأسيس الحق في النسيان كضمانة رقمية قائمة بذاتها، وهو ما يتطلب معالجة تشريعية صريحة ومتكاملة.

رابعاً: تحديات وتوصيات

التحديات أمام تكريس الحق في النسيان في الأردن:

1. غياب الاعتراف الصريح بالحق في النسيان الرقمي في القوانين السارية.


2. صعوبة التوفيق بين الحق في النسيان وحرية الإعلام والنشر.


3. غموض الجهة المختصة بإصدار قرارات الحذف أو فرضها على الشركات التكنولوجية.


4. ضعف البنية الرقمية القضائية والتنظيمية التي تُمكّن الأفراد من ممارسة هذا الحق بفاعلية.


التوصيات:

1. تعديل قانون حماية البيانات الشخصية الأردني
بحيث يتضمّن نصاً صريحاً وواضحاً يُقرّ بالحق في النسيان الرقمي، من خلال إدراج مادة قانونية مستقلة تُتيح للفرد طلب حذف بياناته الشخصية أو الروابط والمحتوى الرقمي المرتبط به من المنصات الإلكترونية ومحركات البحث، متى انتفت المصلحة المشروعة في بقائها، وبما يراعي التوازن الضروري مع حرية التعبير والمصلحة العامة، استلهاماً من المادة (17) من اللائحة الأوروبية العامة لحماية البيانات (GDPR).

2. إنشاء وحدة تنظيمية مختصة بالنظر في طلبات النسيان الرقمي
سواء ضمن هيئة تنظيم قطاع الاتصالات أو وزارة الاقتصاد الرقمي، تتولى تلقي الطلبات، والتحقيق فيها، وإصدار قرارات ملزمة، بالتعاون مع مزوّدي الخدمة الرقمية.

3. وضع معايير قضائية دقيقة للموازنة بين الحق في النسيان وحرية التعبير
مثل: طبيعة البيانات، صفتها (عامة أو خاصة)، مدى انقضاء الزمن، أثرها على السمعة، وجود مصلحة عامة في استمرار إتاحتها.

4. تفعيل دور القضاء في تكريس الاجتهاد القضائي في هذا المجال
عبر دعاوى مدنية أو إدارية تمكّن المتضررين من الحصول على قرارات قضائية بالحذف أو التعويض، ما يرسّخ هذا الحق في الواقع العملي.

5. التوعية المجتمعية والحقوقية
بأهمية الحق في النسيان، وموقعه ضمن الحقوق الرقمية الحديثة، وآليات المطالبة به، خاصة في ظل الاستخدام الكثيف لوسائل التواصل الاجتماعي ونشر المعلومات الشخصية.

6. استلهام النموذج الفرنسي في تكريس الحق في النسيان
من خلال تعديل قانون حماية البيانات الأردني على غرار المادة 40 من القانون الفرنسي للمعلومات والحريات، وإنشاء هيئة مستقلة أو قسم متخصص ضمن جهة قائمة مثل هيئة تنظيم قطاع الاتصالات، مع منحها صلاحية البت في طلبات الحذف، وإلزام مزوّدي الخدمات الإلكترونية بالامتثال الفوري، ووضع آلية للتظلم القضائي.

خاتمة

الحق في النسيان الرقمي لم يعد ترفاً نظرياً أو مطلباً نخبوياً، بل أضحى ضرورة حيوية لحماية الكرامة الإنسانية في عصر تُخلَّد فيه الذكريات وتُستعاد الأخطاء بضغطة زر. وإن كانت أوروبا قد سبقت في تقنين هذا الحق وتفعيله، فإن الوقت قد حان لأن يلتحق المشرّع الأردني بركب التطور الرقمي، ويعترف بهذا الحق بوصفه أداة توازن بين خصوصية الفرد وحرية المجتمع، وبين حق التراجع وحق التوثيق.

وقد أظهرت التجربة الفرنسية، عبر المادة 40 وتطبيق الهيئة CNIL، كيف يمكن أن يتحوّل الحق في النسيان من شكل نظري إلى حق عملي محمي، وهو ما ينبغي أن يكون قدوةً للمشرّع الأردني.

إن إدماج الحق في النسيان في المنظومة القانونية الأردنية لا يعني القطيعة مع حرية التعبير، بل تأكيد على أن الكرامة الرقمية يجب أن تكون هي المعيار الحاكم في زمن لا ينسى.

مواضيع قد تعجبك