التربية الإسلامية بين اختزال الرؤية وغياب التخطيط التربوي المتوازن
في مرحلة تتزايد فيها الضغوط على الهوية الثقافية للأمم، وتتسارع فيها التحديات الفكرية والسلوكية التي تواجه الأجيال الصاعدة، تصبح الحاجة إلى مشروع تربوي وطني متكامل أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. هذا المشروع لا يُبنى على ردود الأفعال، ولا يُدار بمنطق الإجراء الإداري أو التعديل العشوائي، بل يحتاج إلى رؤية متجذرة في وعي الأمة ومقاصدها، ومنظومة تستند إلى مرجعية حضارية واضحة، قادرة على الربط بين الماضي المُلهم والحاضر المتغيّر والمستقبل المنشود.
في هذا السياق، جاء القرار رقم (14) لسنة 2025، الصادر عن لجنة التخطيط في وزارة التربية والتعليم، والذي يقضي بتقليص عدد الحصص المخصصة لمبحث التربية الإسلامية للصف الحادي عشر، مقابل زيادة مخصصة لمبحث تاريخ الأردن، بالإضافة إلى تعديلات أخرى على مبحث التربية المهنية. ورغم أن تعديل الخطط الدراسية في حد ذاته أمر مشروع ضمن حركية تطوير التعليم، فإن ما يثير القلق هنا ليس التعديل بوصفه إجراءً، بل الغياب شبه الكامل لأي مبرر علمي أو تربوي واضح يدعمه، أو دراسة ميدانية موثوقة تم الاستناد إليها في تبرير هذا التعديل.
ما زاد من إشكالية القرار، أنه جاء معتمدًا - ولو جزئيًا - على قراءات تربوية محدودة، طُرحت من بعض المهتمين بالشأن التربوي، دون أن تمثل خلاصة حوار مجتمعي واسع أو تشاور مؤسسي شامل يشمل كافة المختصين في مجالات التخطيط والمناهج، ولا سيما أولئك المعنيين بالتربية الإسلامية والتكوين القيمي. فالرؤية التي تنبني عليها السياسات التعليمية لا يصح أن تُصاغ من منطلقات جزئية أو توجهات أحادية، بل يجب أن تُبنى على قاعدة من التعدد والتوازن والانفتاح على خبرات الميدان، مع التزام علمي بمنهجية التقييم والتقويم.
في ضوء هذا الغياب، تبرز تساؤلات عميقة لا يمكن تجاهلها: ما الذي استدعى هذا التعديل الآن؟ وأين كانت المؤشرات التراكمية التي دلت على ضرورة تقليص زمن التربية الإسلامية؟ ولماذا لم تُظهر التقييمات الوطنية أو تقارير الأداء التربوي أي خلل في توزيع الحصص قبل صدور هذا القرار؟ ثم كيف يمكن اتخاذ خطوة تمس بعمق إحدى المواد التكوينية الجوهرية دون أي حوار مجتمعي أو إشراك فعلي للمعلمين والمشرفين التربويين وأولياء الأمور؟ إن القرارات التي تُعيد تشكيل الجدول الدراسي لا تُعد قرارات تنظيمية عابرة، بل هي انعكاس مباشر للرؤية التي تحملها الدولة تجاه وظيفة التعليم وموقع القيم في بنية المنهج.
تُعد مادة التربية الإسلامية في المنظومة التعليمية أكثر من مجرد حصة، فهي فضاء لتشكيل الوعي القيمي والأخلاقي، ومنصة لغرس منظومة السلوك، وبوابة لتعزيز الهوية الثقافية والدينية التي تُسهم في توازن الطالب ونضجه. والقرآن الكريم، الذي يُشكل مرجعها الأساسي، لا يُقَدَّم كمادة محفوظة، بل كنص تأسيسي لبناء الإنسان الحرّ، المسؤول، والمتزن. تقليص زمن هذا المبحث دون دراسة علمية أو مرافقة بمراجعة شاملة للمحتوى، يُفهم ضمنيًا على أنه تراجع في ترتيب الأولويات التربوية، ورسالة سلبية تتعارض مع ما تقتضيه الحاجة الوطنية من تعميق للهوية وتعزيز للمناعة القيمية.
أما في الجهة المقابلة، فإن زيادة الحصص المخصصة لمبحث تاريخ الأردن لا تُعد إشكالية بحد ذاتها، فتعميق الوعي بالتاريخ الوطني مطلب تربوي لا خلاف عليه. غير أن الإشكال يتجلى في الكيفية والغاية: هل تم فعلاً إجراء تقييم ميداني بيّن وجود حاجة تعليمية تستدعي زيادة زمن المادة؟ وهل صاحبت هذا القرار خطة لتطوير محتوى المادة وتحديث أساليب تدريسها بما يضمن استثمار الزيادة بشكل فعّال؟ أم أن الزيادة جاءت بوصفها إجراءً تكميليًا، يُقصد به ملء فراغ ناتج عن تقليص مادة أخرى؟ فإذا لم تقترن أي زيادة زمنية بتطوير نوعي ومهني، فإنها قد تتحول إلى عبء شكلي لا يحقق قيمة تعليمية حقيقية.
الأزمة التي نواجهها اليوم لا تنحصر في توزيع الحصص الدراسية، بل في نمط التفكير التربوي الذي أنتج هذا القرار. فالمناهج لا تُبنى من فراغ، والقرارات التربوية لا تُؤخذ بمعزل عن تحليل عميق للبيئة التعليمية والواقع الاجتماعي، ودون وضوح في الأهداف الكبرى للمشروع التربوي الوطني. إن أي خلل في الرؤية التربوية ينعكس حتمًا على بنية المنهج، فيتحول التعليم إلى مسار مفرغ من مضمونه التكويني، وتصبح المدرسة أداة لتنظيم الوقت لا وسيلة لبناء الإنسان.
وهنا يبرز سؤال أكثر جوهرية: ما نوع الإنسان الذي نطمح إلى صناعته من خلال هذه المناهج؟ وهل يمكننا تحقيق هذا الهدف دون تكامل حقيقي بين المعرفة والقيم؟ إن المنهج الذي يُفصل عن مرجعيته القرآنية يفقد قدرته على التوجيه والبناء، ويتحول إلى محتوى إجرائي لا يُنتج وعيًا، ولا يُلهم سلوكًا، ولا يُرسخ انتماءً. القرآن، في جوهره، ليس فقط كتاب هداية روحية، بل وثيقة بناء حضاري، ودستورًا للتفكير الحرّ، وأساسًا لصياغة عقل مسؤول قادر على التمييز بين الظاهر والجوهر، بين الوسائل والغايات.
ما نحتاج إليه اليوم ليس إعادة توزيع زمنية للحصص، بل إعادة تأسيس لرؤية تعليمية متكاملة، تبدأ من سؤال الهوية وتنتهي عند سؤال النهضة. فالتخطيط التربوي الناجع لا يعبث بالحصة، بل يُعيد بناء الفكرة، ولا يُبنى على الرأي المجتزأ، بل على حوار علمي ومجتمعي متين. ولا يمكن أن تثمر جهود الإصلاح إن لم تكن متصلة بجذورنا المعرفية، وفي مقدمتها القرآن الكريم، بوصفه مرجعية لا معرفية فحسب، بل تربوية وثقافية تشكل الضامن الأعمق لمناعة الإنسان أمام التحديات المعاصرة.
وفي المحصلة، إن معركة النهوض الحضاري، في جوهرها، معركة تربوية لا تُكسب بالأدوات الإدارية، بل تُخاض بمنهج متكامل يعيد تعريف الغايات ويرسم المسارات. والنهضة لا تبدأ حين نلحق بالآخر، بل حين نعود إلى ذواتنا بقوة وعي، ونبني مشروعنا التعليمي من منابعنا، لا من هوامش التجارب المستوردة. إن الدعوة لإعادة النظر في هذا القرار يجب ألا تقف عند حدود الجدول، بل تتجاوزها إلى مراجعة شاملة للمنظومة التي صاغت القرار، ومنهج التفكير الذي أنتجه، وفلسفة التعليم التي وجّهته. فحين يكون التعليم نابعًا من مرجعيتنا القرآنية، ومتصلًا بثوابتنا القيمية، يكون قادرًا على إنتاج أجيال لا تحفظ فقط، بل تبني وتنهض وتغيّر.




