*
الاربعاء: 17 ديسمبر 2025
  • 06 تموز 2025
  • 09:51
الدُقّة  صرخة جياع غزة بين رماد القصف وملح البقاء

خبرني - في غزة، حيث يُقايض الناس أرواحهم بالطعام، تحولت “الدُقّة” من نكهة فطورٍ شعبيّ إلى نداء استغاثةٍ مكتوم.

لم تعد تلك الخلطة الفلسطينية التراثية طقسًا على أطراف المائدة، بل أصبحت قلبها، بلون الرماد، ورائحة الجوع.

“الدُقّة” التي كانت تُعد يومًا نُزهة الفلاح، وزاد الصباح في فِناء البيوت القديمة، صارت اليوم وجبة الحرب، وخبز الحصار، ومرآةً للفقر المدقع الذي يخنق أكثر من مليون فلسطيني شُرّدوا قسرًا من منازلهم، بينما يقتاتون على ما بقي من الأرض وما بقي لهم من كرامة.

من النكبة إلى النكبة: تاريخٌ يُعاد طحنه

ليس جديدًا على “الدُقّة” أن تكون حكاية لاجئ، فمنذ نكبة 1948، وجدت هذه الخلطة طريقها من مطابخ يافا وحيفا والمجدل، إلى مخيمات غزة، تسكن أكياسًا قماشية وتبكي على الرفوف.

فلاح علوش، أحد أبناء هذه القصة، يروي كيف أن والده المهجّر من يافا أسس أول مطحنة دُقّة على شاطئ غزة عام 1949.

“كان يطحن القمح المحمّص مع الجرادة الناشفة (الشبت)، والكمون، والسماق، والشطة، والكزبرة، والملح، ويبيعها مع الزعتر والقهوة… كانت تلك أول رائحة وطنٍ نُعيدها لأنفسنا”، يقول علوش وهو يحدق في مطحنة حي الشيخ رضوان، التي لا تزال تعمل رغم كل شيء. لكن ما تنتجه اليوم، ليس إلا ظلّ ما كانت عليه.


النكهة التي هجّرها الحصار

اليوم، يُطحن العدس مكان القمح، وتُهرس المعكرونة بدلًا من الحبوب، ويُغتال طعم الأصالة بنَفَس الغلاء، لتتحول “الدقة” إلى وجبة البائسين، منفيّة من طعمها، مشحونة بالحاجة.

كيلو “الدقة”، التي كانت تُباع بـ12 شيقلًا، يقفز سعرها إلى ما يفوق 140 شيقلًا، ليس لندرة مكوناتها فقط، بل لأن الجوع لا يعرف سقفًا.


رمزي شاهين، ربّ أسرة نازحة من حي الشجاعية، يقول: “نأكل الدقة يوميًا. ليست خيارًا بل إجبارًا، لم نعد نملك رفاهية التنويع. نحشوها في الخبز، نرشها على الخضار، نخلطها بالزيت النباتي، وكل مرة نتظاهر بأنها وجبة جديدة”.

زوجته بسمة تتحدث وهي تحمل رضيعًا يعاني من طفح جلدي: “أطفالي يبكون من طعمها، أمي مريضة بالمعدة بسببها، لكن من يملك رفاهية التذمر؟ في زمن المجاعة، حتى الملح يصبح حلوًا”.

خطر غذائي… وذاكرة ملغومة

أمام طغيان الفقر، لا تجد العائلات مخرجًا إلا في مزيد من التضحية بالصحة.

هشام حسونة، خبير تغذية، يحذر من هذه الوجبة المفخخة. “الدقة أصلًا غنية بالملح، فقيرة بالبروتين، واليوم تُصنع من بدائل ملوثة، محمصة بطريقة غير صحية، وتُعرض مكشوفة في الشوارع… إنها قنبلة غذائية موقوتة”.


يُضيف: “الاعتماد المفرط عليها يؤدي إلى التهابات المعدة، تلبك الأمعاء، ومشاكل في القولون، خصوصًا مع الأطفال وكبار السن، في وقت لا يتوفر فيه دواء، ولا ماء نقي، ولا علاج”.

الدقة: طعام النازحين… وذاكرة وطن

لكن “الدُقّة” ليست فقط وجبة، إنها أعمق من ذلك، إنها ذاكرة لا تزال تنبض تحت الركام، مقاومة بملحها وبصبرها، كما يقاوم أهل غزة الحصار والعدوان. إنها وجبة فقيرة، نعم، لكنها مُحمّلة بتاريخٍ طويل من التهجير والحرمان، وها هي اليوم، تُقدَّم على موائد النزوح لتُعيد رواية القصة ذاتها: لا شيء في غزة يموت… إلا ويُبعث من جديد على هيئة مقاومة.

في قطاعٍ يُطارده الجوع، وتُحاصره الحرب، تبقى “الدُقّة” عنوانًا صغيرًا لحكاية كبرى. حكاية وطنٍ يُطحن بين العدوان والحصار… لكنه لا يُكسر.


 

مواضيع قد تعجبك