دراسة تحليلية في ضوء مبدأ سلطان الإرادة
مقدمة
يُعتبر العقد من أهم أدوات تنظيم العلاقات القانونية بين الأطراف، ويقوم على مبدأ أساسي هو "العقد شريعة المتعاقدين" الذي يمنح الأطراف حرية الإرادة في تحديد شروط التعاقد وتنظيم التزاماتهم.
لكن هذه الحرية ليست مطلقة، إذ تتدخل قواعد القانون ومبادئ العدالة لتحقيق التوازن، خاصة في الحالات التي تتعرض فيها العقود لاختلال بسبب ظروف طارئة، تفاوت تفاوضي، أو غبن وتعسف.
ومن هنا تنبع أهمية سلطة القاضي في تعديل شروط العقد، حيث يُعد القاضي الحارس الذي يعيد التوازن للعلاقة التعاقدية عبر تطبيق نصوص القانون ذات الصلة.
مبدأ سلطان الإرادة وحدوده
> "العقد شريعة المتعاقدين، فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين أو في الحالات التي يقرها القانون."
يعكس هذا المبدا أهمية إرادة الأطراف في إنشاء الالتزامات، ويكفل لها الحرية التعاقدية.
لكن المبدأ ليس مطلقًا، إذ توجد حالات يفرض فيها القانون قيودًا على الإرادة لحماية الطرف الأضعف، وضمان العدالة، وحماية المصلحة العامة.
وهنا، تظهر صلاحيات القاضي في تعديل شروط العقد، ضمن إطار قانوني يحفظ للعقد أصالته، ويوازن بين حرية الإرادة ومقتضيات العدالة.
أولًا: نظرية الظروف الطارئة – المادة (205)
تنص المادة (205) على:
> "إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها، وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي، وإن لم يصبح مستحيلاً، صار مرهقًا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة، جاز للمحكمة تبعًا للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن ترد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول إن اقتضت العدالة ذلك. ويقع باطلًا كل اتفاق على خلاف ذلك."
يمنح هذا النص القاضي صلاحية تعديل الالتزام أو تخفيفه في مواجهة ظروف خارجة عن إرادة الطرفين، مثل الكوارث الطبيعية أو الأزمات الاقتصادية.
وهذا التدخل يهدف إلى إعادة التوازن للعقد دون إلغائه، وضمان عدم تحمل أحد الطرفين خسائر فادحة تفوق قدرته.
ثانيًا: عقود الإذعان – المادة (204)
تنص المادة (204) على:
> "إذا تم العقد بطريق الإذعان وكان قد تضمن شروطًا تعسفية جاز للمحكمة أن تعدل هذه الشروط أو تعفي الطرف المذعن منها وفقًا لما تقضي به العدالة، ويقع باطلًا كل اتفاق على خلاف ذلك."
في عقود الإذعان، حيث تكون شروط العقد معدة مسبقًا من طرف مهيمن، ويُفرض قبولها على الطرف الآخر، يمنح القانون القاضي سلطة حماية الطرف الضعيف بتعديل الشروط التعسفية.
وهذا يُجسد رقابة قضائية على الإرادة الشكلية لضمان التوازن والعدالة.
ثالثًا: الشرط الجزائي – المادة (364)
تنص المادة (364) على:
> **"1. يجوز للمتعاقدين أن يحددا مقدما قيمة الضمان بالنص عليها في العقد أو في اتفاق لاحق مع مراعاة أحكام القانون.
2. ويجوز للمحكمة في جميع الأحوال بناءً على طلب أحد الطرفين أن تعدل في هذا الاتفاق بما يجعل التقدير مساويًا للضرر، ويقع باطلًا كل اتفاق يخالف ذلك."**
يُتيح هذا النص للقاضي تعديل الشرط الجزائي لضبط التناسب بين قيمة الشرط والضرر الفعلي، وحماية الأطراف من شروط تعسفية أو تعويضات مبالغ فيها.
رابعًا: نظرة الميسرة – المادة (334)
تنص المادة (334) على:
> **"1. يجب أن يتم الوفاء فورًا بمجرد ترتب الالتزام نهائيًا في ذمة المدين ما لم يوجد اتفاق أو نص يقتضي بغير ذلك.
2. على أنه يجوز للمحكمة في حالات استثنائية إذا لم يمنعها نص في القانون أن تنظر المدين إلى أجل معقول أو آجال ينفذ فيها التزامه إذا استدعت حالته ذلك ولم يلحق الدائن من هذا التأجيل ضرر جسيم."**
تعكس هذه المادة مرونة في التنفيذ تمنح القاضي سلطة تأجيل الوفاء بحال عسر المدين، بشرط ألا يضر ذلك الدائن ضررًا جسيمًا، وهي أداة توازن زمني تضمن عدالة الأداء.
خامسًا: تعديل السعر أو الشروط في عقد السلم – المادة (538)
تنص المادة (538) على:
> **"1. إذا استغل المشتري في السلم حاجة المزارع فاشترى منه محصولًا مستقبليًا بسعر أو بشروط مجحفة إجحافًا بينًا، كان للبائع حينما يحين الوفاء أن يطلب إلى المحكمة تعديل السعر أو الشروط بصورة يزول معها الإجحاف.
2. وللمشتري الحق في عدم قبول التعديل الذي تراه المحكمة واسترداد الثمن الحقيقي الذي سلمه فعلاً للبائع، وحينئذ يحق للبائع أن يبيع محصوله ممن يشاء.
3. ويقع باطلًا كل اتفاق أو شرط يقصد به إسقاط هذا الحق سواء أكان ذلك شرطًا في عقد السلم نفسه أو في التزام آخر منفصل."**
تظهر هذه المادة حرص المشرّع على حماية الفلاحين والمزارعين من الاستغلال، وتمنح القاضي دورًا فعالًا في تعديل العقود الجائرة.
سادسًا: إجارة الوقف بأقل من أجر المثل – المادة (754)
تنص المادة (754) على:
> **"1. لا تصح إجارة الوقف بأقل من أجر المثل إلا بغبن يسير، ويلزم المستأجر بإتمام أجر المثل ودفع ما نقص منه عن المدة الماضية من العقد، وله الخيار في فسخه أو القبول بأجر المثل عن المدة الباقية.
2. ويجري تقدير أجر المثل من قبل الخبراء في الوقت الذي أُبرم فيه العقد، ولا يُعتد بالتغيير الطارئ أثناء المدة المعقود عليها."**
يرسخ هذا النص حماية المال الوقفي، ويعطي القاضي صلاحية تصحيح الأجرة لضمان عدم التفريط في مال عام أو خيري.
خاتمة
يُظهر القانون المدني الأردني من خلال هذه النصوص رؤية متوازنة تجمع بين احترام سلطان الإرادة وأهمية العدالة الواقعية في العقود.
فالقاضي ليس مجرد مراقب سلبي لإرادة الأطراف، بل هو الضامن الذي يعيد للعقد توازنه عندما تخفق الإرادة في تحقيق العدالة، بفعل الظروف الطارئة، تفاوت القوة، أو الاستغلال.
وبذلك، يُمكّن القانون القاضي من أن يكون فاعلًا حقيقيًا في حفظ الحقوق وتحقيق التوازن بين مصالح الأطراف، مما يعزز ثقة المتعاملين ويُرسخ الاستقرار القانوني والاجتماعي




