خبرني -
في خضم تحولات العصر المتسارعة، وفي ظل التحديات الفكرية والثقافية التي تواجه مجتمعاتنا، تصبح خطب الجمعة في مساجدنا أكثر من مجرد كلمات تُلقى على المنابر، بل رسالة تحمل في طياتها أمل بناء أمة واعية، متجددة، تسعى إلى الانسجام مع روح الزمن ومتطلبات المستقبل. لقد آن الأوان لأن نعيد النظر في مضمون هذه الخطبة ودورها، وأن نؤسس لها رؤية جديدة تخرجها من أسر الماضوية المتكلسة، التي تقف أحياناً حاجزاً أمام التطور، إلى منابر تجمع لا تفرق، تبشر لا تنفر، تبني لا تهدم. فهذه المنابر يجب أن تكون منبراً للحوار العقلاني الهادف، وحاضنة للفكر المستنير الذي يعانق الحاضر ويستشرف المستقبل، يتحدث بلغة عربية سليمة جذابة، تسر القارئ وتأسره، لا بلغة جامدة تشعر المستمع بالتثاقل والبعد.
ومن هذا المنطلق، فإن منبر اليوم يجب أن يكون أكثر من تقليدي ووعظي، بل مستنيراً بالشرع وأصيلاً فيه، وواعياً بالمستجدات ومتغيرات العصر. لا يكفي أن يظل المنبر محصوراً في التكرار والجمود، بل ينبغي أن يكون مساحة حيوية تعالج قضايا الأمة الملحة، من خلال لغة جاذبة مبسطة قريبة من الناس، لا فخمة متعالية تغرب عن أذهان المستمعين، بل لغة تفهمها القلوب والعقول على حد سواء، وتفتح لهم نوافذ أمل وفهم جديد.
إن عصرنا، بكل ما يحمله من تكنولوجيا وعلوم ومعارف، يقدم لنا أدوات ووسائل لم نعهدها من قبل، ويضع أمامنا مواضيع وقضايا معاصرة تستحق أن تناقش بحكمة وروية في خطب الجمعة. إن استثمار هذه الوسائل والمواضيع بأسلوب جذاب ومقنع، هو السبيل إلى استنهاض الوعي الجمعي، وتحفيز التفكير النقدي البناء، وإشاعة ثقافة الحوار بدل الانغلاق والتشدد. الخطبة التي تنبع من فهم عميق لواقع الأمة، وتحاكي هموم الناس وهموم العصر، تكون قادرة على أن تزرع بذور الأمل في النفوس، وتفتح آفاقاً للنمو والتطور.
لا شك أن اللغة العربية، التي هي وعاء ثقافتنا وهويتنا، يجب أن تحتفظ بمكانتها في هذه الخطب، لكن بأسلوب حديث ومرن، يحمل جمال التعبير وبلاغة البيان، بعيداً عن الجمود اللغوي الذي ينعزل عن فهم الجيل الجديد. إن الخطبة التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الجمال اللغوي والقوة الفكرية، تملك القدرة على جذب المستمع، ومخاطبة عقله وقلبه، لتكون فعلاً منبراً للمحبة والوحدة، لا منبراً للفرقة والتشرذم.
إن هذا التوجه الجديد لا يقتصر على مجرد تجميل الخطاب، بل هو حاجة ملحة لمجتمع يبحث عن معنى جديد لوحدته وقوته، مجتمع يحلم بأن يتحرر من قيود الماضي المتصلب، ويخوض تجربة جديدة متجددة تبني المستقبل على أسس العلم والمعرفة، وترسخ القيم الإنسانية الرفيعة. ونحن بحاجة إلى خطباء يملكون رؤية واضحة، ووعي شامل، وجرأة فكرية، لاستثمار خطب الجمعة كمنبر ينير العقول ويهذب النفوس، ويجعلها أكثر استعداداً للتعامل مع متغيرات العصر بثقة وحكمة.
وقبل هذا وذاك ، نحن بحاجة إلى منابر تجمع ولا تفرق، تبشر ولا تنفر، تبني ولا تهدم، وتعيش روح الحاضر وتستشرف آفاق المستقبل، منابر تكون بحق نبراساً يضيء طريقنا نحو مجتمع متماسك، متقدم، ومستقبل أكثر إشراقاً. هذه هي الرؤية التي نأمل أن تتحقق في خطب الجمعة، على أيدي دعاة الفكر المستنير، الذين يؤمنون بأن الكلمة الصادقة القوية قادرة على صنع الفرق، وبناء
أمة تستحق أن تُسمى أمة الحضارة والعطاء .




