*
الاحد: 14 ديسمبر 2025
  • 28 أيار 2025
  • 18:25
زمن الله يهده الزلمة بزعل والمرة بترده  من زمن الحياء الأردني إلى زمن التفاهة المستوردة
الكاتب: فايز عضيبات

خبرني - في الأردن، كان الحياء سيّد الأخلاق، وكان العيب يحكم السلوك أكثر مما يحكمه القانون. لا تُقال الكلمة على عواهنها، ولا تُكشف الأسرار على قارعة الطريق، ولا يُعرض ما يدور في البيوت على الغرباء، فكيف بمنصات يتابعها القاصي والداني؟
كان الأردنيون، بجذورهم الريفية والبدوية، ينشأون على أن "الناس سِتْر"، وأن "من لا يستحي يفعل ما يشاء" ليس مجرد قول مأثور، بل قاعدة حياة.

أما اليوم، فنحن نعيش انقلابًا على تلك القيم. تفككت منظومة الحياء، وتراجعت سطوة "العيب"، وحلّ مكانها سلوك استعراضي لا يستحي من شيء، بل يتباهى بانتهاك كل ما كان يُعد سابقًا من المحرمات المجتمعية.
صار الأب يرى ابنته ترقص على "تيك توك"، ويرى ابنه يُسرف في الشتائم والسُخرية وكشف ما يُفترض أن يُستر، ويكتفي بالصمت أو التبرير، وكأننا لسنا أبناء ذلك المجتمع الذي كان يخجل فيه الشاب من رفع صوته في الطريق.

لقد أصبح ما يجري على مواقع التواصل الاجتماعي من تفاهات واستعراض مبتذل، وتلاشي لقيم الحياء، موضوعًا ثابتًا في المجالس الأردنية. لا تخلو جلسة عائلية أو لقاء عام من حوارات تفيض بالدهشة والغضب: فتاة تروّج لمحتوى مُخجل، شاب يتفاخر بأفعال مشينة، وخلافات زوجية تُنشر للعامة كأنها مسلسل واقعي... وكأن "الستر" أصبح عارًا، و"الحياء" صار موضة قديمة.

لكن التحولات لم تأتِ من فراغ، بل كانت نتيجة تراكمات عميقة. فالهجرات المتتالية إلى الأردن، وما حملته من ثقافات وسلوكيات غير متجانسة، أدت إلى خلخلة في البنية القيمية، خصوصًا في المدن التي لم تعد تعرف ملامحها الأصلية. كما أسهمت الضغوط الاقتصادية، من بطالة وفقر وغياب الأمل، في إنتاج جيل يبحث عن "الفرصة" في كل شيء، حتى لو كانت على حساب الكرامة.

ووسط كل هذا، تفشت المخدرات والحبوب المهلوسة بين الشباب، حتى صار العقل غائبًا، والضمير مخدرًا. لا وازع، ولا رادع، ولا توجيه. كثير من الأسر استسلمت، والمدارس أصبحت منشغلة بالإدارة، والخطاب الديني أُفرغ من مضمونه، بينما الإعلام المحلي – للأسف – كان إما غائبًا، أو شريكًا في تضخيم التفاهة وتقديم النماذج المشوهة باعتبارها رموزًا للنجاح والذكاء الاجتماعي.

ولم تنجُ المؤسسات الرسمية من المسؤولية. فهي إما تتعامل مع هذه التحولات بروتوكوليًا بلا عمق، أو تُقنّن السلوكيات عبر تسويقها تحت عناوين مضللة كـ "الحرية الفردية" و"الانفتاح" دون حوار مجتمعي حقيقي يحمي الهوية الأردنية ويوازن بين الانفتاح واحترام الموروث.

نعم، تغير الزمن، ولكننا لم نحسن إدارة هذا التغيير. تركنا الساحة فارغة، فملأها العبث والابتذال. فرّطنا في العيب، فغاب الحياء. واليوم ندفع الثمن في شكل أسر مفككة، وسلوكيات هجينة، وشباب ضائع يبحث عن معنى في المكان الخطأ.

لسنا ضد التكنولوجيا، ولا ضد التعبير، ولكننا ضد أن يتحول المجتمع الأردني – الذي بُني على الرجولة والحياء والكرامة – إلى نسخة ممسوخة من ثقافة لا تشبهنا.
نحتاج إلى وقفة صادقة، من الجميع: الأهل، والإعلام، والدولة، والعلماء، حتى نعيد الاعتبار لقيمة "العيب"، لا بوصفه قيدًا، بل درعًا واقيًا يحفظ ما تبقى من روح هذا المجتمع النبيل.

مواضيع قد تعجبك