*
الاحد: 14 ديسمبر 2025
  • 12 أيار 2025
  • 19:28
الذكاء الإستراتيجي الصيني في بناء نظام دولي متعدد الأقطاب
الكاتب: أ: زيد مفلح الكعابنة

 " راقب بهدوء وحلّل بتمعن ،وثبت موقعك و تعامل بثقة مع المتغيرات ،وأخفي قدراتك والتزم التواضع ،وانتظر الوقت المناسب ، وتحرك حين يحين الوقت "
ملخص نصائح الرئيس السابق الصيني دينغ شياو بينغ 
 نشرها سنة 1989 وعملت بها الحكومات الصينية المتعاقبة لعقود حتى وصلت لما وصلت اليه اليوم.

المهارة والبراعة التي تُدير بها الصين شؤونها الداخلية والخارجية، مستندةً إلى مزيج من الخبرة التاريخية والمرونة التكتيكية والرؤية الاستراتيجية طويلة المدى. تُعتبر هذه الحنكة نتاجًا لتفاعل عوامل ثقافية وسياسية واقتصادية معقدة، فالسياسية الصينية ليست مجرد "استراتيجية" بل هي فن إدارة التعقيدات عبر مراحل زمنية متعددة،
(الفنون العسكرية لصن تزو)، والتي تُعلّم فنون إدارة الصراع دون مواجهة مباشرة، وتحقيق النصر عبر فهم الخصم والبيئة.  والذكاء الاستراتيجي لـصن تزو، الذي يُعتبر أحد أعمدة الفكر العسكري والفلسفي الصيني القديم، تجسَّد في كتابه الشهير "فن الحرب" (The Art of War). يُعد هذا الكتاب مرجعًا عالميًّا لا يقتصر على الاستراتيجية العسكرية فحسب، بل يمتد إلى فلسفة إدارة الصراع وتحقيق النجاح.

لا يمكن فهم الذكاء الاستراتيجي الصيني دون الغوص في أعماق التاريخ والثقافة التي صقلت رؤية هذه الحضارة العريقة. فالصين، التي تُعدّ إحدى أقدم الحضارات الإنسانية، طوّرت عبر آلاف السنين منظومةً فكريةً تجمع بين الفلسفة العملية والرؤية البعيدة المدى، مما جعلها قادرةً على تجاوز التحديات وبناء إمبراطوريات وسياساتٍ تترك بصمتها على خريطة العالم. اليوم، ومع صعود الصين كقوة عظمى، يظهر هذا الذكاء الاستراتيجي في كل تفاصيل نهضتها الحديثة، من السياسة الداخلية إلى المشاريع العالمية الطموحة.
إن جوهرَ القوة الصينية يكمن في فلسفةِ الزمن. بينما تعيشُ الأممُ في ردود أفعالٍ قصيرةِ النَّفَس، تخطِّط الصينُ لعقودٍ مقبلةٍ، كأنها تلعبُ لعبةَ "وي تشي" على رقعة العالم، تتحركُ ببطءٍ ووعيٍ، تاركةً كلَّ حجرٍ يوضعُ يخدمُ اللوحةَ الكبرى. فالقيادة الصينية هنا ليس سيدًا، بل حارسًا لتلك الرؤية الطويلة، مذكِّرًا بأن العظمةَ ليست في الصعودِ إلى القمة، بل في البقاءِ هناك. فالصينُ ليست دولةً عظمى فقط، بل حضارةٌ تتناسخُ في ثوب الأمة. قوتها ليست في أن تُحاكي أحدًا، بل في أن تكونَ نفسَها بتعقيداتها: تنينٌ يرقصُ على حافة الماضي والمستقبل، عارفًا أن الاستراتيجيةَ الحقيقيةَ هي فنُّ تحويلِ الترابِ إلى ذهبٍ، والجدرانِ إلى جسورٍ.
كما يعود أساس التفكير الاستراتيجي الصيني إلى مدارس فكرية مثل الكونفوشيوسية والطاوية  ، والتي ركزت على مفاهيم مثل الانسجام الاجتماعي، والتخطيط طويل الأمد، وإدارة الموارد بحكمة ، على سبيل المثال، كتاب "فن الحرب" لـ( صن تزو) لا يزال مرجعًا عالميًا في الاستراتيجية العسكرية والسياسية، حيث يقدّم مبادئ مثل "اعرف عدوك واعرف نفسك تنتصر ألف مرة"، وهو مبدأ تتبناه الصين اليوم في منافستها التكنولوجية والاقتصادية مع الدول الأخرى.  
كما أن مفهوم "التنين النائم"، الذي يشير إلى صبر الصين وقدرتها على انتظار اللحظة المناسبة للتحرك، يعكس فلسفةً ترى في الزمن حليفًا وليس عدوًا. هذا النهج يتجلّى في سياسات مثل "النهضة السلمية" التي أعلنتها الصين في تسعينيات القرن الماضي، والتي مهدت لصعودها التدريجي دون إثارة صدامات مباشرة.


الاستراتيجية الحديثة: بين التكنولوجيا والسياسة العالمية

في العصر الحديث، تحول الذكاء الاستراتيجي الصيني إلى آلة معقدة تجمع بين الابتكار التكنولوجي والدبلوماسية الذكية والاقتصاد الواسع. خطة "صنع في الصين 2025"، على سبيل المثال، ليست مجرد سياسة صناعية، بل هي خارطة طريق لتحقيق السيادة التكنولوجية في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات والطاقة النظيفة. هذه الخطة تعكس فهمًا عميقًا لأهمية التحكم في سلاسل القيمة العالمية، وهو ما يضمن للصين موقعًا مركزيًا في الاقتصاد المستقبلي.
على الصعيد الجيوسياسي، تبرز مبادرة "الحزام والطريق"  كأحد أعظم المشاريع الاستراتيجية في القرن الحادي والعشرين. عبر استثمارات ضخمة في البنى التحتية عبر آسيا وأفريقيا وأوروبا، لا تسعى الصين فقط لتعزيز نفوذها الاقتصادي، بل تبني شبكةً من التحالفات السياسية التي تعيد تشكيل موازين القوى العالمية. هنا، تظهر براعة الصين في تحويل "القوة الناعمة" إلى أدوات ملموسة للتأثير.
فالذكاء الاستراتيجي الصيني ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج تراكم معرفي وثقافي، وقدرة على تحويل الفلسفة إلى سياسات فعلية. قد لا تكون الدول الأخرى قادرةً على نسخ النموذج الصيني بحذافيره، لكن هناك دروسًا مستفادة حول أهمية الرؤية الموحدة، الاستثمار في الابتكار، والصبر التاريخي. في عالمٍ يتسم بالتقلبات، تقدم الصين نموذجًا لفن البقاء والازدهار عبر قرون.

دور الصين في تفعيل نظام دولي متعدد الأقطاب

تشهد الصين تحولاً جوهرياً في السياسة الدولية، حيث تسعى بشكل استراتيجي إلى تعزيز نظام عالمي متعدد الأقطاب، يُقلص الهيمنة الأحادية أو الثنائية (كالولايات المتحدة وحلفائها)، ويفسح المجال لقوى صاعدة أخرى. يتجلى هذا الدور عبر عدة محاور:
 أولاً :النمو الاقتصادي والمبادرات العالمية
   أ-مبادرة الحزام والطريق (BRI): تُعد أبرز أدوات الصين لتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي. من خلال استثمارات في البنية التحتية بأكثر من 140 دولة، تُعمق الصين الاعتماد الاقتصادي عليها، وتخلق شبكات تجارية بديلة عن الغرب.

   ب-  المؤسسات المالية: تأسيس بنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية (AIIB) و"بنك التنمية الجديد" مع دول البريكس، كبدائل لمؤسسات بريتون وودز (كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، مما يعزز التعددية المالية.

 ثانياً : التعزيز السياسي والمؤسسات الدولية
   - الإصلاح المؤسسي:تدعو الصين إلى إصلاح مجلس الأمن الدولي ومنظمة التجارة العالمية لتعكس تمثيلاً أكبر للدول النامية،
زيد مفلح الكعابنه
مما يعزز الشرعية المتعددة الأقطاب.
   - تحالفات إقليمية: تعزيز منظمات مثل "منظمة شنغهاي للتعاون" و"مجموعة بريكس"، والتي تضم روسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، كمنصات لدعم التعددية القطبية.

 ثالثاً: . التحديث العسكري والأمن السيبراني
   - توسيع القدرات العسكرية، خاصة في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي، لضمان أمن الممرات البحرية وتعزيز الوجود الاستراتيجي.
   - الاستثمار في التقنيات المتقدمة (مثل الذكاء الاصطناعي والفضاء الإلكتروني) لموازنة التفوق التكنولوجي الغربي.

 رابعاً: الدبلوماسية الثقافية والنموذج الصيني
   - القوة الناعمة: استخدام معاهد كونفوشيوس وقنوات إعلامية مثل CGTN لنشر الثقافة الصينية ورواية بديلة عن الخطاب الغربي.
   - النموذج التنموي: الترويج لـ"نموذج بكين" القائم على التنمية الاقتصادية دون شروط سياسية، كبديل للديمقراطية الليبرالية، خاصة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
   
وزبدة الكلام في الختام 
تعمل الصين كقوة محورية في تفكيك الهيمنة الغربية، عبر مزيج من القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية. ومع ذلك، فإن نجاحها في بناء نظام متعدد الأقطاب يعتمد على قدرتها على تجاوز الانتقادات الداخلية والخارجية، والتعاون مع قوى أخرى لضمان استقرار النظام الدولي. قد يكون المستقبل نظاماً تتعايش فيه التعددية مع تنافس استراتيجي، حيث تبرز الصين كقطب رئيسي، لكنها ليست الوحيدة.

مواضيع قد تعجبك