تتسابق الحكومات الرشيدة إلى وضع خطط اقتصادية قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى، وتعيد جدولة الديون وتدوير العجز المالي العام في محاولة منها لعلاج الخلل من خلال مؤتمرات تفيض بخبراء لا تنعكس ألقابهم دائما على أثر ملموس في الواقع التنفيذي وتُشكل اللجان لترقيع الفتوق بخيوط ليست قوية بما فيه الكفاية لتصمد أمام التحديات ، وسط هذا الضجيج الاقتصادي يبقى السؤال الأعلى صوتا لماذا تفشل كل هذه البرامج رغم النوايا الحسنة وتراكم الدراسات؟
الجواب لن تجده في تقارير صندوق النقد ولا في مؤشرات الأسواق، بل في سطر قرآني غُيب عن الوعي التنموي المعاصر حين قال القران الكريم على لسان نبيه نوح عليه السلام لقومه:
"فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا".
هذه الآية ليست وعدا إلهيا فحسب، بل خارطة طريق اقتصادية تنموية شاملة لإعادة البناء من الجذور ولا تكتفي بمعالجة الأعراض الظاهرة ولا تكتفي بالمعادلات الكينزية أو نظريات السوق، بل تمتد إلى إصلاح البنية الأخلاقية التي تنهض عليها الأمم ،فالاستغفار في هذا السياق ليس طقسا تعبديا شفويا معزولا، بل منهج تحول جذري في الضمير الجمعي يتطلب صدقا في المكاشفة وليس تأجيل وجرأة في الاعتراف لا تبريرا للأخطاء.
الاستغفار هنا ليس كلمات تقال فحسب، بل منظومة عمل تُترجم إلى شفافية في الموازنات، وتشريعات تجرم التهرب الضريبي، وتواجه السلوكيات التي تُفرغ مفاهيم النزاهة من مضمونها وتُحول المبادئ إلى أدوات لمنافع ضيقة، وهو تعليم يخرج أجيالا ترى في الربح مسؤولية أخلاقية لا فرصة للالتفاف على القانون ،فالأزمات لا تبدأ بانهيار المؤشرات فحسب، بل حين تغيب منظومات الرقابة والمساءلة تتاح الفرصة لسلوكيات اقتصادية غير منضبطة أن تنتشر دون رادع ويُقصى الإصلاح الأخلاقي عن كل مشروع تنموي حقيقي.
"يرسل السماء عليكم مدرارا " ليست مجرد بشارة بمطر، بل تشخيص دقيق لأسباب انسداد الرزق وكشف للعوائق المصطنعة التي تمنع تدفق الخير ،والمطر في هذا السياق لا يأتي منفصلا عن السعي، فعندما تستغفر الامة وتصلح نيتها تُفتح لها أبواب التعاون الدولي، وتتدفق الاستثمارات نحو مشاريع منتجة ينعم بنتائجها الجميع وليس فئة دون غيرها ،بدءا من معالجة الاستثمارات التي تُحبس في أدراج البيروقراطية، إلى الفرص البناءة التي قد تتعثر في دهاليز البيروقراطية المتشابكة أو تُطفأ جذوتها قبل أن ترى النور، إلى الأسواق التي تعاني من الركود بسبب غياب القيم، فالسماء لا تمطر خيراتها على أرض تفتقد للمناصحة الإيجابية ولا على بيئة يغيب عنها التوازن بين القيم والمصالح.
"ويمددكم بأموال وبنين" ليست مجرد بشارة بالوفرة، بل مبدأ للاستدامة التنموية فما نفع المساعدات الخارجية إن كانت تتسرب إلى مشاريع شكلية لا تغني ولا تثمر إلا في جيوب المتنفعين؟ وما جدوى القروض إذا استنزفت في سد العجز بدل استثمارها في بناء الإنسان والبنية الإنتاجية لا الاستهلاكية؟ فالأموال هنا ليست ما نستدينه، بل ما ننتجه في دورة اقتصادية منتظمة ومنضبطة، والبنون ليسوا أرقاما في سجل الإحصاءات، بل أجيالا حرة مبدعة تملك أدوات المعرفة وتمنح فضاء التفكير والإبداع خارج المألوف ولا تترك في طوابير الإحباط والبطالة.
"ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا" ليست لوحة خيالية، بل فلسفة تنموية سبقت مؤتمرات المناخ بقرون ,الجنات تمثل بيئة مستدامة تحفظ الحياة والكرامة والحرية وليست فقط مجرد بقع خضراء على هامش التصحر الإداري والاقتصادي والبيئي، أما الأنهار فهي رمزية لمشاريع إنتاجية متدفقة، لعدالة توزيع الموارد ولشبكات بنى تحتية تربط الأطراف بالمركز على أسس إنمائية لا لخدمة أرباح الكبار.
وكل هذا يبدأ من فعل واحد بسيط في الظاهر عظيم في الأثر، إنه الاستغفار ليس لأن الله بحاجة لعبادتنا، بل لأن النفس التي تعترف بخطئها تكتسب القابلية للإصلاح والتغيير، فالمجتمعات التي لا تمارس ثقافة الاستغفار التطبيقي تبقى رهينة الجمود، والادارات التي ترفض الاعتراف بأخطائها كمن يبني ناطحة سحاب على صدوع زلزالية دون أكواد إنشائية. أما السياسات التي لا تراجع أخلاقيا قبل أن تقاس كأرقام جافة صماء فمصيرها الى التلاشي .
عزيزي الإقتصاد المتعثر هل من المكن أن نضمن الموازنة بندا رئيسيا نسميه الاستغفار العملي ؟
ليس كخطبة وعظية شكلية لضبط سلوك الجموع ،بل كبرنامج إصلاح شامل و استغفار يُغير القلوب والايدي التي توقع نيابة عن المال العام وترافقها تشريعات تعلي من النزاهه والعدالة.