يعيش الأردن اليوم في قلب إقليم يغلي تحت نيران الصراعات، وتشتبك فيه المصالح الدولية والإقليمية بأدوات مرئية وخفية، وتُحاك فيه السياسات في الغرف السوداء بعيدًا عن إرادة الشعوب. وسط هذا اللهيب المشتعل، يثبت الأردن مجددًا أنه وطن يتسع للجميع، ويستند في مسيرته إلى ثوابت راسخة، قوامها الحوار، والعقلانية، والعمل السلمي، ضمن إطار دولة القانون والمؤسسات.
لقد شكّل الأردن، تاريخيًا، صوت الحكمة في المنطقة، ودرعًا منيعًا أمام كل محاولات جرّه إلى مربعات الفوضى أو العنف. وهو ما يتطلب من الجميع، مؤسسات وأفرادًا، ضبط النفس، وترشيد الخطاب، وترك المجال للقضاء ليقول كلمته بعيدًا عن أي ضغط أو تأويل. فالقانون هو الفيصل، وهو الحكم الذي ينبغي أن نخضع له جميعًا، لا أن نحاول مصادرته أو الالتفاف عليه.
وفي الوقت ذاته، فإن من يحاول جرّ الأردن نحو التجييش، أو يسعى لبناء تشكيلات مسلحة خارجة عن إطار الدولة، يرتكب جرمًا بحق الوطن، ويهدد أمنه واستقراره. فالسلاح في الأردن، كان وسيبقى، حكرًا على الدولة وحدها، التي تمثل الجميع، وهي صاحبة القرار في السلم كما في الحرب، بحكم مسؤوليتها الدستورية وموقعها الشرعي.
وهنا لا بد من التأكيد أن قرار الحرب كما قرار السلام، لم يكن يومًا أردنيًا خالصًا، بل قرارًا عربيًا جماعيًا منذ نكبة عام 1948، ونكسة عام 1967، حين ارتبط المصير العربي بقرارات جامعة، يجتمع عليها القادة وتقرّها الشعوب. وكذلك كان السلام مع العدو، قرارًا عربيًا تبنّته القمم العربية، وكان الأردن أول من التزم به، وأول من يلتزم به عند الحرب والسلم، انطلاقًا من مبدأ الانتماء القومي والتضامن العربي.
من هنا، فإن الزجّ بالأردن في متاهات لا يعلم بها إلا الله، أو محاولة دفعه إلى معارك لا قرار له فيها، هو ضرب من العبث الذي لا يخدم سوى أعداء الأمة. أما الدور الأردني الحقيقي، الذي عرفه العالم وقدّره الأصدقاء والخصوم، فهو دور دبلوماسي وإنساني فاعل: في تقديم العون الإغاثي والطبي، وفي التوسط النزيه بين الفرقاء، وفي العمل كوسيط مؤتمن يحمل على كتفيه همّ الأمة دون أن يفرّط بأمن وطنه أو استقرار شعبه.
إن المرحلة تقتضي الوعي، والحكمة، والاحتكام للمؤسسات. أما أولئك الذين يطبلون ويزايدون على مواقف الدولة، أو يحاولون تجييش الشارع، فهم يعبثون بأمن الوطن ويشوّشون على صورة الأردن الهادئة العاقلة، التي كانت دومًا محل احترام داخلي وخارجي. إن الوطن اليوم بحاجة إلى خطاب جامع، وإلى وحدة صف، لا إلى شعارات جوفاء أو محاولات تسلّق على أكتاف الغضب الشعبي.
الأردن ليس ساحة للتجارب، بل دولة ذات سيادة، وعقل جمعي راشد، ومؤسسات قادرة، وموقع محوري في قضايا الأمة. فلنحفظه من كل تهور، ولندع له دوره الطبيعي في التهدئة، وفي البناء، وفي حمل الراية الدبلوماسية والإنسانية التي تليق به وبشعبه ..




