في لحظة فارقة من تاريخ سورية المعاصر، أعلنت دمشق وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) عن اتفاق غير مسبوق، يقضي بإعادة دمج مؤسسات الإدارة الذاتية الكردية ضمن الدولة السورية. الاتفاق، الذي كان يبدو مستحيلًا قبل سنوات، يفتح أبواب تساؤلات كبرى: هل هو تحول استراتيجي سيؤدي إلى إعادة توحيد البلاد؟ أم أنه مجرد تكتيك سياسي فرضته الظروف وسرعان ما سينهار تحت وطأة المصالح الإقليمية والدولية؟
في جوهره، هذا الاتفاق ليس مجرد إعادة ترتيب للأدوار، بل هو اختبار حقيقي لمستقبل سوريا كدولة واحدة أو ككيان مشرذم تُعاد صياغته وفق توازنات جديدة. فهل يمثل هذا الاتفاق محاولة حقيقية لإنهاء النزاع، أم أنه مجرد "هدنة سياسية" تخفي وراءها صراعًا مؤجلًا؟
السياق الإقليمي والدولي: لماذا الآن؟
1. واشنطن تنسحب تدريجيًا: الفراغ الاستراتيجي
منذ سنوات، كانت الولايات المتحدة الداعم الرئيسي لقسد، لكنها اليوم تُعيد حساباتها في الشرق الأوسط. مع تصاعد التوترات العالمية، تجد واشنطن نفسها مجبرة على تقليل التزاماتها في سوريا، مما يجعل قسد أمام واقع جديد: إما إيجاد بديل استراتيجي أو مواجهة خطر التفكك العسكري والسياسي.
2. تركيا: الحسابات المعقدة
تركيا لطالما كانت اللاعب الأكثر حساسية تجاه الملف الكردي، وهي اليوم تتابع هذا الاتفاق بريبة. إذا استوعبت دمشق قسد ضمن مؤسساتها الرسمية، فقد تفقد أنقرة مبررات تدخلها العسكري، لكن بالمقابل، قد تستخدم الاتفاق كذريعة جديدة لشن عمليات عسكرية بحجة "قطع الطريق على إقامة كيان كردي مستتر".
3. روسيا وإيران: تقاطع المصالح واختلاف الرؤى
روسيا تدفع باتجاه استعادة دمشق السيطرة على كامل الجغرافيا السورية، لكن إيران قد تكون أكثر حذرًا. فإعادة تموضع قسد داخل الدولة السورية قد يعني تحجيم دور الحرس الثوري الإيراني في شمال شرق سوريا، ما قد يؤدي إلى توترات خلف الكواليس بين حلفاء الأمس.
تفكيك الاتفاق: هل نحن أمام إعادة هندسة السلطة؟
أبرز بنود الاتفاق
1. دمج المؤسسات العسكرية والمدنية لقسد ضمن مؤسسات الدولة السورية.
2. تمثيل الأكراد في الحكومة السورية، مع ضمان حقوقهم الثقافية والإدارية.
3. إعادة توزيع السيطرة على حقول النفط والموارد الاقتصادية بين دمشق وقسد.
4. إعادة النازحين إلى مناطقهم الأصلية، في إطار مصالحة وطنية واسعة.
5. التزام دمشق بمنع أي تدخل عسكري أجنبي، خاصة من قبل تركيا.
6. التنسيق المشترك لمكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة غير النظامية.
7. ضمان عدم استخدام الأراضي السورية كقاعدة لأي قوى أجنبية.
8. إنشاء لجنة رقابة مشتركة للإشراف على تنفيذ الاتفاق خلال العام المقبل.
هذه البنود تحمل في طياتها تحولات عميقة في هيكلة السلطة داخل سوريا، حيث تسعى دمشق إلى امتصاص قسد بدلًا من مواجهتها، لكن نجاح ذلك مرهون بمدى القدرة على تنفيذ هذه البنود دون انهيارات داخلية أو ضغوط خارجية.
من المستفيد ومن المتضرر؟
1. دمشق: تعزيز السيادة أم تقديم تنازلات؟
بالنسبة للدولة السورية، الاتفاق يعيد إليها سيطرتها على جزء استراتيجي من البلاد دون قتال، لكنه قد يفرض عليها تقديم تنازلات سياسية لم تكن مستعدة لها سابقًا. فهل سيتحول هذا إلى فرصة لتعزيز سلطة الدولة، أم إلى قنبلة موقوتة داخل مؤسساتها؟
2. قسد: خطوة تكتيكية أم بداية النهاية؟
قسد، التي كانت تتمتع بوضع شبه مستقل، تدخل الآن في معادلة جديدة. هل هو اتفاق يضمن لها الاستمرار بشكل مختلف؟ أم أنه بداية لذوبانها داخل مؤسسات الدولة، مما سيؤدي لاحقًا إلى تفكيكها تمامًا؟
3. تركيا: ارتباك في الخيارات
أنقرة تجد نفسها في وضع معقد. فمن جهة، أي اندماج رسمي لقسد داخل سوريا يحدّ من قدرتها على التدخل العسكري، لكن من جهة أخرى، قد يُستخدم الاتفاق كذريعة لتصعيد جديد بحجة "إزالة أي تهديد كردي على الحدود التركية".
4. الولايات المتحدة: نفوذ يتلاشى؟
إذا تم تنفيذ الاتفاق بنجاح، فقد يعني ذلك تراجعًا كبيرًا للنفوذ الأمريكي في سوريا، وربما انسحابًا تدريجيًا من المشهد، مما يترك الساحة لروسيا وإيران وتركيا لإعادة ترتيب الأوراق.
هل يعيد التاريخ نفسه؟
في عام 1970، وقّعت الحكومة العراقية اتفاقًا مع الأكراد لمنحهم حكمًا ذاتيًا، لكنه انهار لاحقًا بسبب خلافات حول التنفيذ. فهل سيشهد اتفاق دمشق وقسد مصيرًا مشابهًا؟
الفرق الجوهري أن سوريا اليوم ليست العراق في السبعينات. المشهد أكثر تعقيدًا، والتدخلات الدولية أعمق، والتوازنات الداخلية أكثر هشاشة. لذا، فإن نجاح الاتفاق أو انهياره سيعتمد على القدرة على التكيف مع هذه المعطيات المتغيرة.
السيناريوهات المستقبلية: إلى أين يتجه الاتفاق؟
1. نجاح الاتفاق بالكامل: سوريا موحدة بترتيبات جديدة
إذا استطاعت دمشق استيعاب قسد دون إثارة مقاومة داخلية، فقد نشهد إعادة هيكلة ناجحة للسلطة في سوريا.
سيؤدي ذلك إلى تقليص فرص التدخل الأجنبي، واستعادة الاستقرار التدريجي.
2. التعثر الجزئي: تأخر التنفيذ وصراعات داخلية
قد تنشأ خلافات حول تمثيل الأكراد في الحكم أو تقاسم الموارد، مما يؤدي إلى تنفيذ بعض البنود فقط.
استمرار التوترات قد يؤدي إلى تعطيل الاتفاق دون انهياره الكامل.
3. انهيار الاتفاق: عودة الصراع من جديد
إذا تعرض الاتفاق لضغوط داخلية أو خارجية، فقد ينهار قبل أن يتم تنفيذه، مما يعيد المنطقة إلى حالة الفوضى.
قد تستغل أطراف إقليمية هذا الفشل لإعادة تشكيل المشهد السوري وفق أجنداتها الخاصة.
العوامل الحاسمة في تحديد مصير الاتفاق
1. موقف الولايات المتحدة: هل ستدعم الاتفاق أم تحاول عرقلته للحفاظ على نفوذها؟
2. الدور التركي: هل ستقبل أنقرة بالأمر الواقع أم تتجه إلى تصعيد عسكري جديد؟
3. الداخل السوري: هل ستتقبل القوى المختلفة في دمشق هذا الاتفاق، أم ستعارضه من داخل النظام؟
4. روسيا وإيران: هل ستنجح موسكو في لعب دور الضامن لهذا الاتفاق، أم ستبرز تناقضات بين مصالحها ومصالح طهران؟
سوريا أمام مفترق طرق جديد
اتفاق دمشق وقسد قد يكون نقطة تحول تاريخية، لكنه ليس ضمانًا لاستقرار دائم. إذا تم تنفيذه بحكمة، فقد يكون خطوة نحو إنهاء الصراع وبناء دولة جديدة بتوازنات مختلفة. أما إذا فشل، فقد يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الفوضى وإعادة الاصطفاف الإقليمي والدولي.
السؤال الكبير: هل نشهد لحظة إعادة توحيد سوريا، أم مجرد هدنة سياسية تسبق صراعًا جديدًا؟