بينوكيو
هي دمية خشبية صنعها نجار عجوز في حقبة ما من حقبات الزمن. كان النجار
وحيداً يعيش في بيته بلا ولد أو زوجة، ورفاق وحدته ليسوا سوى دمى خشبية
يتفنن في صناعتها ويتقن تفاصيلها. كانت المفاجأة عندما نطق "بينوكيو"،
وأصبح أنيس النجار في حياته، وولداً حباه القدر به دون سابق إنذار. ما كان
يميز بينوكيو عدا عن كونه دمية تنطق وتسمع هو أنفه. فكلما كذب "بينوكيو"،
عقابه هو زيادة طول أنفه، وكأن في ذلك تقويماً لسلوكه وتدريباً على الحياة
الفضلى. كانت هذه حبكة رواية خيالية للروائي الإيطالي "كارلو كولودي"، وتم
أخذها لاحقاً إلى أبعاد اخرى من عدة أفلام رسوم متحركة موجهة تحديداً لمعشر
الأطفال.
عندما
نتأمل بقصة بينوكيو، قد نصل إلى مراحل أخرى غير مسبوقة. في ظل الأحداث
التي نعيشها، والمغامرات الحياتية الجمة التي نعاصرها، يطرق خيالاتنا
عنوانات جديدة ليس لنا عهد بها. لو كان قدر أنوفنا زيادة الحجم كلما كذبنا،
لربما انتهى بنا المقام مزاحمة قمم الأنوف وتسلقها كي نستنشق قليلاُ من
هواء نقي ينعش صدورنا. طرزانات بشرية تتمرس القفز بالحبال بين الأشجار
الشاهقة الارتفاع. أو ربما نعيش في ظلمة حالكة جراء حجب الأنوف المتطاولة
لأشعة الشمس، حتى غدت غيوماً كثيفة تمنعنا عن رؤية ما فوقنا وما يحيط بنا.
نستكشف دروبنا، وتتحسس أيادينا الخطوة القادمة على أمل أن تطأ أقدامنا بقعة
أرض آمنة. الخطوة بالخطوة، والحذر آيتنا، والحرص علامة سيرنا قدماً. ساعة
ننجح في الاختبار ونجد يابسة، وساعة أخرى لا ننجح ونجد رمالاً متحركة تسحب
أجسامنا إلى القاع السحيق حيث لا بشر ولا شجر.
وإذا
أخذنا القصة إلى وسائل الإعلام، إنما نجد العجب العجاب. فالمراسلون على
الخط الأول المتلامس مع الحقيقة المجردة، والمشاهد هو المتلقي للخبر. فكما
كان أنف بينوكيو يصطدم ساعة كذبه بأجساد من يقابله، تصطدم عيوننا كثيراً
بأنوف المراسلين، وتزاحم عيوننا لحظة معرفة الخبر. ضباب يزين شاشات التلفاز
ويحوم حول صفحات الجرائد، ونحاول بكل جد المنافسة في معرفة ما تخبئه أتلال
الأنوف خلفها. صارت أنوف بعض المراسلين حشائش "سافانا" نمشي عبرها، ونشق
تزاحمها أملاً في الوصول إلى الحقيقة الكامنة في الكلمات التي تتلفظ بها
أفواههم وتكتبها أناملهم. فالحقيقة صارت مبتغى صعب الوصول، لا سيما وقد
تكاثرت مصادرها كأبناء أم ولود، وأحفاد جدة ترفل بحظ طول العمر.
بينوكيو
كانت نهايته باعثة للأمل، فعندما أصبح طفلاُ مجداُ واعياً صادقاً، تحول
إلى صبي حقيقي من لحم ودم. لعل هذا هو السبب الجوهري في جعلها أفلاماً
للأطفال. فهم محاربون صاعدون إلى معترك الحياة، منهم من سيصبح الكاتب
والمراسل، ومنهم أيضاً الصديق والعدو. سيكونون دوماً معرضين لمعركة البحث
عن الحقيقة، وسيوفهم لا بد وأن تستل دفاعاً عنها. هم غير ناضجين بعد،
وحالهم كحال "بينوكيو"، والإجابة على التساؤلات التي تداهم أدمغتهم هي من
التحديات الكبرى التي عليهم خوضها. النصر أحياناً والخسارة أحياناً أخرى،
وبين نصر وخسارة، سيتقلبون بين أكف الحقيقة حتى يدركوا واقعاً قيمة الكلمات
وحدة السلاح الذي بين أيديهم، ويجدوا أنفسهم في الصفوف الأمامية. ربما نحن
قفزنا عن هذه المرحلة، وما زلنا نعاني من متلازمة "بينوكيو"، وبتنا مصابين
بها دون أن نعلم. غدونا مراسلين في ساحات الوغى على الرغم من عدم شفائنا
منها. الأنوف ظاهرها الحجم الطبيعي، وإنما حالها الطول أمتاراً. فاللحم
والدم ابتعدنا عنه، ولامسنا عن عزم مخلوقات من خشب. قد يهيأ لنا حمية الدم
في عروقنا، ولكنها ليست سوى ناراً تأكل الخشب الذي يكونها. فالحقيقة تغازل
الدم، وتنسل من خيوط اللحم ثياباً، والخشب مصيره الفناء طال الأمد أو قصر.
وكما يرهب وباء "إيبولا" الأمم حالياً، لا بد وأن ترهبنا متلازمة
"بينوكيو". فالأمصال تعددت وابتعدت عن وباء آخر استشرى، ألا وهو وباء البعد
عن الحقيقة.
حسام خطاب
[email protected]




