*
الاحد: 07 ديسمبر 2025
  • 24 نوفمبر 2020
  • 12:20
عن الولايات المتحدة الأمريكية
الكاتب: أمجد تادرس

عُرف عن الرئيس الأمريكي الراحل (رونالد ريغان) هوايته بحفظ النكت التي كان يتداولها مواطني الإتحاد السوفيتي السابق إبان الحكم الشيوعي. وكان يقول أن هذه النكت هي مرأة للأوضاع المعيشية داخل الإتحاد السوڤيتي. وكان دائماً يقحم هذه النكات في خطاباته التي طالما يتعمد إضافة شيء من الفكاهة فيها.

 ومن إحدى النكت التي رواها (ريغان) لمستمعيه مراراً وللزعيم السوفيتي آنذاك (ميخائيل غورباتشوف) كانت عن مواطن أمريكي ومواطن سوفيتي يتجادلان عن الفرق بين بلديهما. فقال الأمريكي أنه يستطيع في أي وقت من مخاطبة رئيسه في الولايات المتحدة ويقول له أنه غير راضي عن الطريقة التي يدير بها (ريغان) الولايات المتحدة. فكان رد المواطن السوڤيتي بأن ذلك غير صحيح. فهو يستطيع عمل ذلك أيضاً. فهو يقدر في أي وقت مخاطبة رئيسه ويقول له أنه غير راضٍ عن الطريقة التي يدير بها (ريغان) الولايات المتحدة.

(ريغان) استهل خطابه الأول أمام الكونجرس عام ١٩٨٢ باقتباس من خطاب (لجورج واشنطن) من عام ١٧٩٠ الذي أكد حينها للشعب الأمريكي بأن مصير حكمهم هو "الحفاظ على نار الحرية المقدسة والرهان على التجربة الموكلة في أيدي الشعب." وكعادته أيضاً أضاف (ريغان) دعابه للحضور وخصوصاً الصحفيين منهم الذين يتوخون الدقة بقوله أنه لم يسمع (جورج  واشنطن) شخصياً يقول ذلك.

مصير حكم أمريكا ما زال في يد الناخب الأمريكي وهذا الحكم مرتكز في الدرجة الأولى على قوة الحكم المحلي لمجالس منتخبة على مستوى الأحياء، والبلديات والمقاطعات. هذه المجالس تتحكم في الأمور الحياتية للمواطن الأمريكي من أمن وتعليم وصحة وبنية تحتية. وتمول من الضرائب المحلية وتصرف من قبل المجالس التي تجتمع في جلسات مفتوحة يشارك فيها الجمهور.

وبالتالي لا يأبه المواطن الأمريكي العادي كثيراً بمن يجلس في عاصمة ولايته ناهيك عن من يجلس في البيت الأبيض. ويعزو خبراء الحكم والقانون أن الحكم المحلي القوي هو السر الذي أبقى الولايات المتحدة الخمسين متحدة رغم التفاوت الاقتصادي والسياسي والديني والعرقي بين سكانها. 

كما تشكل الولايات مجتمعة سوقا استهلاكية ضخمة للسلع والخدمات بالرغم من تفاوت بعض القوانين والتشريعات بين ولاية وأخرى. إلا أن المواطن الأمريكي يستطيع التنقل والسفر والرحيل آلاف الأميال دون الحاجة لتغيير رقم هاتفه أو حسابه البنكي. هذا السوق  المفتوح والواسع هو من مكن العديد من الشركات العملاقة أن تنمو وتسيطر على قطاعات حيوية عالمية وهامة من المصارف وشركات النفط وتكنولوجيا المعلومات وتتمتع بقدر كبير من الحرية والتي سمحت لها من جذب الأدمغة والخبرات من جميع أنحاء العالم. والأمثلة كثيرة وأهمها (ستيڤ جوبز) مؤسس شركة أبل والذي ينحدر من أصول سورية.

أضف إلى ذلك نظام ما يسمى بالأوقاف. وهو نظام متين ومتقن يمتلك العديد من مؤسسات 
 الخدمات العامة كالمستشفيات والجامعات ومراكز الأبحاث وحتى الكراسي في الحدائق العامة. فمثلاً تحوي الولايات المتحدة على أكثر من ١٤٠٠ مركز دراسات تنشر أبحاثا عن شتى المواضيع المحلية والعالمية. وتمول جميعها من تبرعات من دافعي الضرائب. جامعة (هارڤرد) العريقة هي في النهاية وقف بحجم يفوق الأربعين مليار دولار وهو تقريبا بحجم الناتج القومي للمملكة الأردنية الهاشمية.

ويسمح النظام أيضاً بتشكيل لوبيات ومجموعات الضغط التي تتبنى العديد من الأهداف من البيئة إلى التنقيب عن النفط إلى سائقي الشاحنات إلى مزارعي التبغ وتعمل في العلن وضمن خطط منشورة وواضحة.  ويحق لأي مواطن أمريكي العمل لحساب دول أخرى شريطة إعلام وزارة العدل بذلك. 

ومن ضمن هؤلاء ما يسمى باللوبي الصهيوني والذي يعمل من خلال (الإيباك) والذي يعمل في داخل عمارة على شارع (كي) في واشنطن العاصمة ولها ما يزيد عن خمسة عشر فرعاً يعمل فيها زهاء خمسمائة موظف وآلاف المتطوعين وليس (كما يعتقد البعض) في قبو عمارة خفي ومظلم. وتنشر أهدافها (التي يجدها البعض منفرة) على شبكة الإنترنت وليس (كما يعتقد العديد) في وثائق سرية لا يعلم بها سوى خبراء نظريات المؤامرة. وتقوم سنويا بجمع تبرعات بأكثر من سبعين مليون دولار أي بحدود دخل السعودية من النفط في ثلاثة ساعات  تنفق لدعم السياسات والسياسيين المتفقين مع أهدافها. 

ويحكم الجميع دستور صيغ قبل أكثر من ٢٢٠ عاما وضعه ٥٥ شخصا أجتمعوا لمدة ١١٥ يوما داخل قاعة في مدينة (فيلادلفيا) وأقسموا أن لا يخرجوا منها قبل وضع وثيقة تاريخية (قابلة للتحديث) تحكم البلد لأجيال قادمة من خلال فصل السلطات واحترام استقلالية المؤسسات.

وتمحص المحكمة الدستورية العليا القوانين والتشريعات وتتأكد من عدم مخالفتها نص وروح الدستور. وأثبتت المحكمة على مدى التاريخ قدرتها على الحفاظ على استقلاليتها وكان آخر الشواهد عندما رفضت المحكمة العليا تغيير قانون الرعاية الصحية الذي وضعه الرئيس (أوباما) رغم أن ثلاثة من قضاتها التسعة عينهم الرئيس (ترامب) المعادي لهذا القانون.

فحتى مع وجود رئيس غير تقليدي مثل (ترامب) يعتقد هو ومناصريه أنه الزعيم الأوحد والملهم والذي حاول التلاعب وتغيير أسس الدولة. أثبت النظام هناك قدرته على البقاء من خلال أثبات أن الحكم ما زال في يد الشعب وصندوق الانتخابات. وأنه في النهاية أمريكا هي دولة قانون ومؤسسات. 

صحيح أننا يمكننا ذكر مئات الانتقادات لأمريكا من حرب (فيتنام) إلى حرب العراق والدعم اللامحدود لإسرائيل الخ. إلا أن المراهنين على انهيار الولايات المتحدة لا بد لهم من أن ينتظروا طويلاً. فبدلاً من كيل الشتائم والاتهامات والتشكيك وتبنى نظريات المؤامرة من الأفضل لهم أن ينظروا إلى الوجه الآخر لأمريكا عل وعسى يتعلموا شيئا ولو قليلا من "الدولة التي يستغنى عنها" كما أسماها الرئيس (أوباما). 
 

مواضيع قد تعجبك