*
الخميس: 25 ديسمبر 2025
  • 22 أيار 2017
  • 23:14
ربّوا أولادكم لزمانٍ غير زمانكم
الكاتب: دة. عصمت حوسو
ربّوا أولادكم لزمانٍ غير زمانكم

يشكو أغلب الآباء والأمهات حالياً من (نمردة) أولادهم وبناتهم تارة ومن عقوقهم تارة أخرى؛ فأصبحت طاعة الأب والأم والكبير سناً لا تليق بلقب (مودرن) للجيل الحديث، فاختلط عليهم مفهوم (برّ الوالدين) وتبدّل أيضاً لدرجة أصبحت (الأوف  واللاّءات ) سمة الرجولة للأولاد وسمة الاستقلالية للبنات للأسف الشديد.. فمقولة "الولد الردي والبنت الردية يجلبان لأهلهما المسبّة" قاسية جداً في حق الأهل وظالمة في ذات الوقت، ويعود السبب لعدم عدالة إلصاق تلك التهمة المعيبة على الأسرة فقط لأنه ببساطة شديدة تقلص دورها كثيراً أمام منافسة الشراكات الجديدة في التربية كالإنترنت وتقنياته ووسائل التواصل الاجتماعي الكثيرة، بالإضافة الى تأثير مؤسسات التنشئة الأخرى بالطبع وعلى رأسهم مؤسسة الأصدقاء في الوقت الحالي خصوصاً (رفاق السوء)، أبعدهم الله عن أولادنا وبناتنا بُعد السماء عن الأرض..

 يعمل الأب طيلة النهار جاهداً ليؤمن لأولاده قوت اليوم ومتطلبات الحياة، وكذلك الأم التي تعمل بإرهاق شديد داخل البيت وأحياناً خارجه آملين كليهما من أبنائهم وبناتهم تقدير ذلك من خلال النجاح والتقدم والتحلّي بالأخلاق وبرّهم واحترامهم وعدم خذلانهم على أقل تقدير. وعلى الرغم من توفير الأهل في العصر الحالي لأولادهم كل ما يحتاجون على حساب أنفسهم نجد بالمقابل ازدياد التذمّر والتنمّر والتنمرد من قبل الأولاد والبنات اتجاه الأهل دون حمداً أو شكوراً، ناهيك طبعاً عن الانحرافات السلوكية أحياناً والتراجع الأكاديمي في أحيانٍ أخرى مع (التشبيح) بذلك أمام الأقران للأسف حتى يحظى كلمن الولد والبنت بصفة (الكوول)... 

أسباب ذلك كثيرة جداً لعل أهمها ما ذكرته سابقاً من منافسة الشريك الجديد للأسرة فالتربية من أدوات العصر التكنولوجي الحديث وتقنياته المرعبة، ولكن ما يقع عل رأس هرم الأهمية في سوء التربية وآثارها الوخيمة هو عدم التناغم بين طريقة تربية الأب وطريقة تربية الأم وغياب الاتفاق بينهما على توحّد طرق التربية وأساليبها.

أعني هنا على حدّ سواء الأب والأم اللذان يعيشان معاً في بيت واحد، أو المنفصلان مكانياً، أو حتى المطلقان فلا فرق هنا البتّة في مسؤولية عدم تفاهمها على الخط نفسه في التربية. فشراء الحب من الأولاد أحياناً على حساب الشريك بكسر المحظورات ومنح الممنوعات، أو مجاكرة الطرف الآخر بالسماح للأولاد مخالفة طلباته وقوانينه، أو تشويه صورة الشريك أمام الأولاد لأي سبب كان وتسميمهم وتزييف الحقائق والوقائع،  كلّ ذلك على حساب مصلحة الأولاد والبنات ثم تقع الكارثة التربوية على رؤوس الجميع، وتتوسع دائرة الخطأ ويتم معالجتها بأخطاء أكبر منها ثم يحدث ما لا يُحمد عقباه نظراً لغياب الحكمة من قبل الأب أو الأم، والأسوأ حين غيابها عندهما معاً في آنٍ واحد...

يتّسم هذا الزمان بسرعة إيقاع الحياة، كيف لا وهو عصر الإنترنت والموبايل والفضائيات والألعاب الالكترونية وغيرها من التقنيات الحديثة التي جعلت من الأبناء والبنات ضحايا لها بل عبيداً أيضاً. هذه الحقبة الزمنية الحالية توسم (بمشاعية) التربية لا (حصريتها)على الأب والأم كما كانت سابقاً؛ فأمسى عمر التربية للوالدين قصيراً جداً، وأضحى الإعلام والإنترنت بكافة تجلياته شريكاً أساسياً مع الأسرة في التربية وربما طغى على دورها أيضاً..

فالأجدى بنا الآن نحن معشر الآباء والأمهات مواكبتها بحرص وذكاء شديدين حتى لا يصبح الأولاد والبنات خارج (التغطية الأسرية) على الإطلاق، ولنُخرج للمجتمع أجيال صحيحة نفسياً في هذا الزمان الغريب والعجيب... كان الله في عونهم وعوننا معهم. الآن على وجه الخصوص من غير المقبول أبداً بل من السذاجة أيضاً الاعتقاد أننا سننجح في تربية أولادنا وبناتنا كما تربينا نحن، فلا المكان ولا الزمان بقدروا يربّوا الإنسان الحديث ومدخلات عصره المعقدة كما كان في الأجيال السابقة من بساطة أدوات الحياة والتربية؛ فالفجوة الآن توسعت بين الجيل الواحد نفسه فلم تعد الهوّة محصورة بين الأجيال السالفة واللاحقة كما السابق، بخلاف ذلك هو (وهم) لا بل محض خرافة..

هل تقلُّص العلاقة مع الأولاد والبنات يعود الى أن الوالدين تنازلا عن أدوارهما (طوعاً)كنتيجة حتمية لانشغالهم في لقمة العيش أو رفاهيته، أم تنازلا ( قسراً) بضغط من موجة الإغراء الكبيرة للحياة العصرية والتقليد الأعمى وهجمة التغير السريع والعولمة المتوحشة؟؟!! سؤال مشروع جداً  ولكن مهما تكن الإجابة لا مراء هنا ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نقبل بتهميش دورنا مهما تقلّص أمام شراسة الشريك الجديد في التربية وخطورته، يبقى دور الأب والأم هو حجر الأساس ولا يمكن إهماله أو حتى الاستسلام لتغييب هذا الدور الرائع..

لنأخذ على سبيل المثال لا الحصر تأثير الأب والأم على تطور بعض السمات (غير الصحية) للأولاد والبنات:

اذا كان أولادكم وبناتكم يكذبون مثلاً فهذا مؤشر بأن الأهل شديدي المحاسبة والضغط، عندما تقلّ الثقة بالنفس لديهم ويتسمون بالضعف وأحياناً يفضّلون الانطواء فذلك يدلّ على عدم تشجيع الأهل لهم واستخدام لغة التهديد دائماً معهم بالإضافة الى الانشغال الدائم عنهم، واذا كانت لغتهم ركيكة وتعبيراتهم عما يريدون ضعيفة فهذا ينمّ عن ضعف الحوار معهم وعدم مشاركتهم خبراتهم مهما كانت بسيطة، أما وجود الجُبْن مثلاً والخوف الدائم من الناس ومن كل شيء فيدل على الحماية الزائدة من قبل الأهل، واذا حدثت السرقة أحياناً أو تكررت فقد يعكس ذلك الحرمان أو تعلمهم للأنانية منكم وغياب التربية لثقافة الكرم والعطاء، واذا كان فلذة أكبادكم لا يحترم الناس والأكبر منهم سناً يؤشر ذلك بمحاولة لفت النظر لعدم كفايتهم من حاجة الاحترام والتقدير منكم وشعورهم بنقصان الاهتمام مقابل الحديث معهم دوماً بصوتٍ عالٍ دون احترام، أما اذا كان الأولاد والبنات دائمي الغضب فذلك دليل على عدم مديحهم وشكرهم بحسن صنيعهم، واذا وجدت صفة البخل وهي الأسوأ على الإطلاق يكون قد تعلمها منكم بسبب عدم مشاركتهم ممتلكاتك مخصوصا في الأشياء الخاصة والثمينة وحرمانهم مما يشتهون كذلك، واذا كانوا يتصفون بالتنمّر في المدرسة أو في البيت أو مع أصدقائهم وعنيفين مع رفقائهم فهذا يدل على تعاملكم معهم بالعنف اللفظي أو الجسدي أو حتى عنف الإهمال فيسقطون إحباطاتهم على زملائهم أو على من هم أقل منهم عمراً أو مكانة، وعندما تشتدّ الغيرة لديهم فهذا يدلّ على إهمالكم لهم وانشغالكم عنهم بآخرين بالإضافة الى مشاغلكم الأخرى التي تلهيكم عنهم فتستفز غيرتهم بشدة، أما عندما لا يلبّون طلباتكم عندما تسألونهم ربما يكون السبب لكثرتها والاعتماد عليهم بكثرة على حساب راحتهم، والمعضلة التي يعاني منها جميع الأهالي مع أولادهم وبناتهم حالياً هي التفنّن في كسر القوانين وعدم احترامها والتمرّد عليها، فقد يكون السبب الشدّة والتشدّد في تطبيق قوانين الأسرة دون مرونة كالتربية العسكرية، بالإضافة الى العقاب الجماعي فيضيع الصالح بعروى الطالح ويشجعه ذلك على عدم الالتزام لاحقاً طالما أنه أو أنها تعرضوا للعقاب جماعياً دون رأفة أو حتى رحمة. طبعاً لكل أسرة مناخ خاص وديناميكية مختلفة فلا نستطيع التعميم هنا...

إن سرّ الصحة النفسية في التربية هو (الحبّ)، وثمارها هو الوجدان السليم للأبناء والبنات ووقايتهم جميعاً من الاضطرابات السلوكية كالعنف والكذب والسرقة والغضب والعصبية وغيرها من الآفات النفسية والاجتماعية؛ فالحبّ هو الرهان الوحيد هنا . دلائل الحبّ في التربية تعني أن نقود أبنائنا وبناتنا الى الطريق السوي من خلال كلماتنا وأفعالنا المعبرة عن الحبّ، ومن خلال قضاء وقت نوعي معهم وشرح وجهات نظرنا حول كافة المواضيع التي تهمهم والتحدث معهم بصراحة وانفتاح، وإبعادهم عن أصدقاء السوء والأنشطة الضارة، والأهم مدحهم وتعزيزهم عند محاكاتهم لسلوكات إيجابية منتجة ومقبولة اجتماعياً. تلك هي دلائل الحبّ التي تصنع المعجزات في تربية الأولاد والبنات، فللحبّ تأثيرات إيجابية على الجسد أيضاً فهو يقلّل مستوى التوتر وبالتالي يقلّل معدل ضربات القلب التي تعيق التنفس أحياناً، وهو يزيد من مستوى إفراز هرمون(السيروتونين) في الدماغ المسؤول عن مشاعر السعادة، كما أنه يقلل من الشدّ العضلي ويساعد في استرخائها كذلك..

اغرس حبّاً يُثمر حبّاً؛ ومن يبني بيته من صخور الحبّ  الثابتة والشامخة لا يعبأ بالعواصف ..الاستثمار الحقيقي هو بأولادنا وبناتنا فهم أغلى ما نملك..

دة. عصمت حوسو 

رئيسة مركز الجندر (النوع الاجتماعي) للاستشارات النسوية والاجتماعية

مواضيع قد تعجبك