خبرني - استمع مجلس النواب، اليوم، إلى خطاب الموازنة العامة للسنة المالية 2024، والذي ألقاه وزير المالية محمد العسعس.
وتاليا نص خطاب الموازنة كاملاً
سعادة الرئيس
حضرات النواب المحترمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أتقدم لمجلسكم الكريم باسم الحكومة بمشروع قانون الموازنة العامة للسنة المالية 2024 والذي يأتي إعداده في ظل ظروف غير مسبوقة، تقف فيها الأمة على أعتاب مرحلة خطيرة جراء العدوان السافر على أهلنا في غزة والإعتداءات الغاشمة التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية تستهدف من خلالها وأد السلام وترسيخ الاحتلال القائم ومحاولة فرض الأمر الواقع. هي حرب وصفها جلالة الملك المعظم بأنها "حملة شرسة ومرفوضة على مختلف المستويات، وعقاب جماعي لسكان محاصرين لا حول لهم ولا قوة، وانتهاك فاضح للقانون الدولي الإنساني، وجريمة حرب". وفي هذا الفصل الجديد والمستمر من فصول القتل والتدمير والغطرسة الذي لم يشهد له التاريخ المعاصر مثيلا، فإن الموقف الثابت الذي يقفه الأردن بحكم ارتباطه الوجداني والتاريخي والعضوي بالقضية الفلسطينية يؤكد أن الأردن سيبقى، كما أكد سيد البلاد حفظه الله: " في طليعة المدافعين عن قضايا أمته العربية والإسلامية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وسيواصل الأردن القيام بواجبه ودوره التاريخي بدعم الأشقاء الفلسطينيين حتى يتمكنوا من استعادة حقوقهم، وإقامة دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني، ولن يقبل الأردن تحت أي ظرف من الظروف بأي تسوية للقضية الفلسطينية على حساب الأردن، أو على حساب أي من مصالحنا الوطنية" .
وفي إطار توجيهات جلالة الملك المفدى حفظه الله لدعم الأشقاء في الضفة الغربية وقطاع غزة والوقوف إلى جانبهم وتوفير المساعدات التي يحتاجونها في ظل هذه الظروف القاسية، عملت وتعمل الحكومة على تقديم المساعدات للشعب الفلسطيني الشقيق للتخفيف من معاناتهم وتثبيت صمودهم على أرضهم من خلال تسيير القوافل وطائرات المساعدات الإغاثية. ولا يجب أن يفوتنا أن نتوجه جميعا بالشكر والعرفان والتقدير للجهود الكبيرة التي تبذلها قواتنا المسلحة وكوادرها الطبية لمساعدة الأشقاء في غزة والضفة الغربية من خدمات ومساعدات طبية وإغاثية سواء كانت من خلال المستشفيات الميدانية العسكرية القائمة منها أوالجديدة، لعلاج المصابين والجرحى والتخفيف من آلامهم، أو عبر عدد من عمليات الإنزال الجوي لكسر الحصار على غزة وإيصال مساعدات إغاثية وعلاجية عاجلة لتلبية الاحتياجات الملحة للأشقاء في غزة. ويتعين علينا جميعا في هذا المقام أن نوجه تحية إجلال وتقدير لنشامى سلاح الجو الملكي والخدمات الطبية الملكية الذين نهضوا لتنفيذ توجيهات جلالة القائد الأعلى بكل احترافية وجاهزية .
وإذ توقن الحكومة بأن المحافظة على قدرات وجاهزية القوات المسلحة والأجهزة الأمنية وتعزيزها يعتبر التزاما وطنيا ومصيريا، وركيزة أساسية لحماية الإستقرار الاقتصادي وتعزيز البيئة الإستثمارية. فقد أولت الحكومة جل الرعاية والإهتمام لتوفير أسباب القوة والمنعة لمفخرة الأردن ومدعاة أمنه وطمأنينته: أجهزتنا الأمنية والقوات المسلحة، لتعزيز ما وصلت إليه من احترافية مشهودة ومستوى رفيع للذود عن حياض الوطن وحماية أبنائه من كيد الحاقدين وتهديدات المخربين والمهربين الذي لا يرقبون في الأردن وأهله إلا ولا ذمة. ولقد بلغت المخصصات المالية لأجهزتنا الأمنية والقوات المسلحة أعلى مستوى تاريخي لها في موازنة عام 2024.
سعادة الرئيس ،
حضرات النواب المحترمين ،
التناغم السياسي والإقتصادي مطلب وواجب وطني تحتمه الظروف التي تمر بها البلاد ، والناجمة عن العدوان الإسرائيلي على الأهل في غزة. تناغم نعني به أداء ماليا استقراريا مرن، يواكب الأداء الدبلوماسي الرفيع للدولة الأردنية ويشكل رافعة له. إن موازنتنا لهذا العام تؤكد على أن الموقف المالي لن يكون إلا داعما للموقف السياسي . نعم هناك صعوبات وتحديات أملتها الأزمة الحالية، إلا أن موازنتنا هذه التي بين أيديكم تتحوط وتستشرف الخيارات وتتعامل مع الواقع ، وتتميز بالمرونة حتى تكون أداة قوة للموقف السياسي، ولن تكون خاصرة رخوة أو ضعيفة لا سمح الله. ما تقوله الحكومة لكم ليس مستحيلا أو عاطفيا فالأرقام محايدة لا تكذب، نحاول جعلها سلاحا كالإنزال نستعين بها في لحظات العسرة والصعوبة .
ولقد راكمنا في السنوات الماضية استقرارا واضحا في مالية الدولة، وهذه الموازنة تؤكد أن هذا الإستقرار بخير، وأن المؤشرات صاعدة، وأن التفصيلات تحتاج إلى قراءة موضوعية منصفة ، لنقول من خلالها أننا في الأزمات نواجه الرياح، وتحت الضغوط نساند الموقف السياسي ما استطعنا لذلك سبيلا .
سعادة الرئيس ،
حضرات النواب المحترمين ،
] لقد جاء هذا المشروع ليعكس المعالم الرئيسية لخطة الحكومة للعام القادم مهتدية بالتوجيهات الملكية السامية في المضي قدما في تعزيز التعاون والتنسيق بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، والانفتاح على الآراء والطروحات، وخاصة في هذه الظروف الحرجة من تاريخ أمتنا العربية والإسلامية.
وإذ تقدم الحكومة لمجلسكم الكريم مشروع قانون الموازنة العامة لعام 2024 في الموعد الدستوري، فإنها تتطلع إلى مجلسكم الموقر لإقراره لتتمكن الحكومة من مواصلة تنفيذ سياساتها وخططها لتعزيز استقرار الاقتصاد ومنعته، وتحقيق ما أمكن من تطلعات مواطنينا وتلبية احتياجاتهم [ .
سعادة الرئيس ،
حضرات النواب المحترمين ،
إن السياق المضطرب للإقتصاد العالمي لم يكن وليد الساعة، فقد توالت الصدمات بدءا بالتبعات الإقتصادية للجائحة، وانعكاسات السياسات التحفيزية للدول الكبرى التي أعقبت الجائحة، وما تلا ذلك من النزاع الروسي الأوكراني، مما أطلق العنان للضغوط التضخمية، ودخلت اقتصادات دول العالم على إثر ذلك في حالة من الركود التضخمي، مما دفع الدول لتبني سياسات انكماشية لاحتواء التضخم كأولوية متقدمة على تعزيز التعافي الاقتصادي، وشكلت حاجزا أمام الجهود الرامية للتعافي الكامل وأعاقت القدرة على العودة إلى مستويات النمو ما قبل الجائحة، على الرغم من مؤشرات النمو القوي التي ترجمت بوادر التعافي في العديد من دول العالم بفعل السياسات التحفيزية .
وقد دفع هذا المزيج من النزاعات الدولية والسياسات الإقتصادية غير المواتية نحو توقعات غير متفائلة لآفاق الإقتصاد العالمي، حيث أشارت التوقعات الدولية إلى أن نمو الإقتصاد العالمي سيشهد تباطأ في عام 2024 بوتيرة غير متماثلة بين الدول، حيث يتوقع أن يبلغ معدل نمو الإقتصاد العالمي 3 بالمائة في عام 2023 مقابل 3.5 بالمائة في عام 2022، وليواصل تباطؤه في عام 2024 لينمو بنحو 2.9 بالمائة، علما بأن التباطؤ في نمو اقتصادات الدول المتقدمة سيكون أعلى منه مقارنة باقتصادات الدول الصاعدة والنامية.
كما تشير توقعات المؤسسات الدولية إلى نجاح السياسات الإنكماشية في خفض معدل التضخم العالمي تدريجيا من 8.7 بالمائة في عام 2022 إلى 6.9 بالمائة في عام 2023 على أن يبلغ 5.8 بالمائة في عام 2024، مع تأكيد الفيدرالي الأمريكي على الحفاظ على مستوى مرتفع لأسعار الفائدة لخفض التضخم إلى معدله المستهدف والبالغ اثنين بالمائة .
إن ظاهرة الركود التضخمي مع ارتفاع مستويات الدين وتنامي تكلفة الإقتراض جراء ارتفاع أسعار الفائدة عالميا ولفترة ممتدة، تفرض ضغوطا وأعباءا إضافية على موازنات الدول النامية. لذلك، فإن هذه التحديات وهذا المناخ العالمي المشوب بالتقلبات، تؤكد على أهمية الإصلاحات الهيكلية الجذرية للوصول إلى قواعد إقتصادية قوية سليمة مستندة إلى سياسات مالية ونقدية حصيفة تمكن الدول من تحصين اقتصاداتها من مخاطر الأزمات وتعزيز الإستقرار الإقتصادي الذي يعتبر عاملا حاسما للنمو الإقتصادي، ويحول دون تآكل دخول المواطنين في ظل الضغوط التضخمية أو الهزات الاقتصادية. وهذا في الواقع ما انتهجته هذه الحكومة وسعت لتحقيقه إدراكا منها أن حماية الإقتصاد وتحصينه وتحقيق أهدافه لا يتم عبر تغييرات شكلية أو زائفة أو مؤقتة .
سعادة الرئيس ،
حضرات النواب المحترمين ،
إن الأزمات والتحديات التي واجهت مسيرتنا لم تقف يوما عند العواصف الإقتصادية العالمية التي كانت عاملا مؤثرا في الإقتصاد الوطني، ذلك أن موقع الأردن الصامد في هذا الإقليم المضطرب كان ولا يزال يرتب علينا أعباء وتداعيات سياسية واقتصادية لا يمكن إغفالها. لذلك فإن الظروف التي أعدت فيها هذه الموازنة، والعوامل المحيطة المؤثرة بها كان لها انعكاساتها على حجم الموازنة ومرونتها وتوجهاتها بواقعية ودون تهويل. وعلى الرغم من حالة التشدد التي تشهدها الأسواق العالمية، إضافة إلى ما يشهده الإقليم من ظروف سياسية معقدة جراء الحرب على غزة، وما قد يتبع ذلك من تداعيات على اقتصادات المنطقة بشكل عام، وعلى الإقتصاد الأردني بشكل خاص، فسنتمكن - إن شاء الله - من تجاوزها.
وإذا كان اقتصادنا على الدوام في مرمى التحديات، فقد استطاع الأردن أن يتجاوز كثيرا من الأزمات الإقتصادية العالمية والإقليمية، وأن يستوعب جانبا كبيرا من الصدمات في ظل تمتعه باستقرار سياسي واجتماعي، وأسس متينة يستند إليها اقتصاده تدعمها عناصر القوة الكامنة فيها، يعتلي قائمتها حكمة القيادة الهاشمية والمكانة التي يحظى بها جلالة الملك المعظم حفظه الله على المستوى الإقليمي والدولي التي جعلت من الأردن عنصر استقرار ومحط أنظار العالم سياسيا واقتصاديا. كما أن امتلاك الحكومة للرؤية السديدة، والقدرة على إنجاز الإصلاحات الهيكلية، وإعادة النظر في السياسات والإجراءات لتصبح أكثر حصافة وعدالة واهتماما بالجوانب الإجتماعية، والابتعاد عن فرض الضرائب، وتعزيز كفاءة توجيه الدعم لمستحقيه، وإعادة الاعتبار للدور التنموي للنفقات الرأسمالية خاصة في فترات التراجع الإقتصادي تحقيقا للسياسة المالية المعاكسة للدورة الإقتصادية . كما تبنت الحكومة إصلاحات جريئة وإجراءات محكمة ومدروسة لتصحيح التشوهات الضريبية وتعزيز الإيرادات المحلية عبر محاربة التهرب والتجنب الضريبي والجمركي.
سعادة الرئيس ،
حضرات النواب المحترمين ،
لقد أثبتت المراجعة الأخيرة لصندوق النقد الدولي إتمام الحكومة بنجاح لمتطلبات المراجعة السابعة لبرنامجها الوطني للإصلاح المالي والنقدي في وقتها دون تأخير، ومؤكدة على أن الأردن تمكن وبشكل إستثنائي من تلبية كافة الأهداف الرئيسية في البرنامج، شاهدة على حصافة السياسات المالية والنقدية، وأن الاقتصاد يخطو بثقة في تنفيذ الإصلاحات المالية والإقتصادية رغم الصعوبات الراهنة. وقد كانت هذه الشهادة، التي تتوق الكثير من الدول لها خاصة في أوقات الأزمات والإضطرابات العالمية، قد ساعدت على حصول الأردن على معدلات فائدة في أسواق رأس المال العالمية أفضل من مثيلاتها من الدول النامية التي تعاني من ارتفاع كلف التمويل ومحدوديته جراء ضعف الإستقرار المالي والنقدي .
وفي هذا السياق، فقد تمكن الأردن من التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي حول برنامج جديد للإصلاح المالي والنقدي بقيمة 1.2 مليار دولار يمتد لعام 2028، يستمد مكامن قوته من كونه برنامجا أعد بأيد أردنية، ويمثل خيارا إستراتيجيا أردنيا للبناء على ما تحقق من إصلاحات هيكلية وتعزيز استدامتها. ويستند البرنامج إلى مقومات عدة أساسها عدم رفع الضرائب، وتعزيز الإنفاق الرأسمالي، وتوسيع شبكة الحماية الإجتماعية، وعدم المساس بالمقومات الأساسية لمواطنينا، وحماية دخولهم ومعيشتهم من أي تداعيات مستقبلية مفاجئة. كما يهدف البرنامج إلى وضع الدين العام على مسار هبوط تدريجي ليصل إلى نحو 79 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2028 . ويمثل البرنامج قوة دعم كبيرة للأردن في هذه الظروف، ويقدم رسالة لا لبس فيها للمستثمرين حول منعة واستقرار الإقتصاد الأردني أمام الصدمات الخارجية، والمصداقية التي يتمتع بها في وفائه بالتزاماته، وجديته في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية، وقدرته على تحقيق ما عجزت عنه دول كثيرة . كما يتيح البرنامج المساحة اللازمة للتكيف ومواءمة الأهداف والإجراءات في ضوء المستجدات. كما يشكل البرنامج ضمانة أساسية لحصول الحكومة على التمويل اللازم لمتطلبات تحفيز النمو بكلف أقل مما هي عليه في الأسواق المالية.
ومن جهة أخرى، فقد جاء إعلان مؤسسات التصنيف الإئتماني مجتمعة حول تثبيت التصنيف الإئتماني لاقتصادنا الوطني مع نظرة مستقبلية إيجابية أو مستقرة، تأكيدا منها على استقرار ومنعة الإقتصاد الوطني على الرغم من المخاطر التي أثرت على اقتصادات أكبر حجما وأدت إلى تراجع تصنيفها الإئتماني. ومن الجدير بالذكر أن الأردن هو الدولة الوحيدة في المنطقة المستوردة للنفط التي حافظت على تصنيفها الإئتماني كما كان قبل جائحة الكورونا والحرب الروسية الأوكرانية والركود التضخمي. حيث تمكنت وزارة المالية والبنك المركزي من إدارة السياسات المالية والنقدية بحصافة والدفاع عن استقرار الاقتصاد الوطني، الأمر الذي مكن الأردن من تحييد الضغوط السياسية والتعاطي مع البرنامج والإصلاحات بطابعها الإقتصادي خاصة في ظل التطورات الجارية في غزة. لذلك كان تقييم المؤسسات الدولية بأن ما حققه الأردن من إنجازات يمثل قصة نجاح، أكدت قدرته على استيعاب الصدمات المتتالية. كما أثبتت مصداقية الأردن في التصدي للإختلالات ومعالجة التشوهات، وكشفت عن مرونته التي تمده بالقدرة على التكيف، دون اللجوء إلى رفع الضرائب أو خفض الإنفاق الرأسمالي أو خفض الإنفاق على الحماية الإجتماعية، وهذا بذاته يمثل نجاحا كبيرا للسياسة المالية التي حافظت على الإستقرار المالي الذي سمح للإقتصاد أن يستعيد زخم النمو، ليشكل ضامنا أساسيا لحماية الطبقة الوسطى والمحافظة عليها .
سعادة الرئيس ،
حضرات النواب المحترمين ،
وفي ضوء ما سبق، فهناك جملة من الدلالات التي تشير إلى أننا تجاوزنا مرحلة الترقب خلال فترة قصيرة عقب الجائحة، وبدأنا نلمس النتائج الإيجابية لنهج الحكومة الإصلاحي وأثره في تعزيز الإستقرار المالي والنقدي، وبناء جسور الثقة جراء تنفيذ الخطط المعلنة وتحقيق النتائج المستهدفة التي جاءت منسجمة مع طروحات برنامج الإصلاح المالي، حيث من المتوقع أن يحقق الإقتصاد الوطني في عام 2023 نموا بنسبة 2.6 بالمائة بالأسعار الثابتة مقابل 2.4 بالمائة لعام 2022. وعلى الرغم من عدم كفاية هذا النمو لتحسين مستويات المعيشة للمواطنين بشكل ملموس، إلا أنه يؤكد أن الأردن قادر على أن يتجاوز بثبات تداعيات الأزمات العالمية والإقليمية، وفي الوقت ذاته، يتطلب المضي قدما في السياسات المالية والنقدية التي تحافظ على متانة الإطار الكلي للإقتصاد الوطني، وإيجاد البيئة الملائمة للقطاع الخاص لتعزيز دوره الريادي في زيادة معدلات النمو وتعميم منافعه في كل رقاع الوطن. ولقد أسهمت السياسة المالية والنقدية والإجراءات الإستباقية الحصيفة للحكومة، وتعزيز المخزون الإستراتيجي للسلع الأساسية في الحفاظ على المستوى المعتدل في ارتفاع الأسعار وحماية القوة الشرائية لدخول المواطنين. وقد جاء التقرير الصادر عن البنك الدولي مؤكدا في سياقه على أن أسعار المواد الغذائية في الأردن حافظت على استقرارها حيث لم تتجاوز نسبة ارتفاعها 1.7 بالمائة خلال الشهور العشرة الأولى لعام 2023 ، في الوقت الذي ما زالت فيه أسعار الأغذية في معظم دول العالم تشهد ارتفاعات متفاوتة وصلت في لبنان إلى 218 بالمائة، و 72 بالمائة في تركيا، و 71 بالمائة في مصر، و 13 بالمائة في تونس، و 10 بالمائة في المملكة المتحدة، و 9 بالمائة في المغرب واليابان، و 3.3 بالمائة في الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى الرغم من هذه المؤشرات الإيجابية وتحسن النشاط الاقتصادي الذي وفر مزيدا من فرص العمل ووضع معدل البطالة على منحنى انخفاض، حيث بلغ معدل البطالة خلال الربع الثالث لعام 2023 نحو 22.3 بالمائة بانخفاض مقداره 0.8 نقطة مئوية عن مستواه في الربع الثالث لعام 2022 البالغ نحو 23.1 بالمائة ، إلا أنه ما زال بعيدا عن المستويات المقبولة، وتعمل الحكومة جاهدة لخفضه، موقنة أن السبيل الرئيس لذلك لن يكون إلا باستعادة زخم النمو وبمعدلات مرتفعة وعبر الإستقرار المالي والنقدي.
سعادة الرئيس ،
حضرات النواب المحترمين ،
وبعد عام آخر من الإصلاحات الهيكلية، تؤكد المراجعة السريعة لأداء المالية العامة لعام 2023 نجاح السياسة المالية في تعزيز زخم الإيرادات المحلية التي ارتفعت بنحو 584 مليون دينار أو ما نسبته 7 بالمائة عن مستواها لعام 2022. ومما يجدر ذكره أن إيرادات ضريبة الدخل المعاد تقديرها لهذا العام قد تجاوزت مستواها المقدر لعام 2023 بنحو 80 مليون دينار في مؤشر واضح على فعالية الإصلاحات الضريبية التي نفذتها الحكومة خلال أربع سنوات [في الحد من الإختلال في الهيكل الضريبي وتحقيق العدالة الضريبية دون فرض أي زيادة على المعدلات الضريبية أو فرض ضرائب جديدة، إضافة إلى فعالية إجراءات مكافحة التهرب والتجنب الضريبي وتطبيق أفضل الممارسات في التدقيق والتفتيش والتحصيل الضريبي]، وهذا حق الوطن والمواطن في إيرادات لم تحصل سابقا بسبب تهرب هذا أو تجنب ذاك، ردته الحكومة للخزينة مبتعدة عن حلول سهلة وظالمة متمثلة بالمغالاة على الطبقة الوسطى. وتجد الحكومة لزاما هنا أن تشيد بالمواطن الملتزم بواجبه الوطني في تأدية ما عليه من مستحقات ضريبة، مؤكدة في الوقت ذاته على أن الحكومة ستستمر في فرض سيادة القانون وملاحقة المتهربين من تأدية ما عليهم من حقوق تجاه الوطن .
سعادة الرئيس ،
حضرات النواب المحترمين ،
ومن جانب آخر، فقد حرصت الحكومة على مواصلة سياسة الضبط المالي وعدم تجاوز النفقات المقدرة ، في ضوء إجراءات ترشيد وضبط النفقات والتزام الحكومة بأحكام قانون الموازنة العامة . ومن المهم الإشارة إلى أن التحدي الحقيقي الذي شهدته الموازنة هذا العام ، مثل باقي دول العالم، يتمثل بارتفاع فاتورة فوائد الدين العام عن المستوى المقدر بنحو 126 مليون دينار بسبب استمرار الفيدرالي الأمريكي برفع معدلات الفائدة حتى شهر تموز لعام 2023 الأمر الذي انعكس سلبا في زيادة نفقات بند الفوائد على الرغم من حنكة إدارة الدين العام التي نجحت في الحفاظ على التصنيف الإئتماني الأردني ومكنت الأردن من الحصول على التمويل اللازم بتكلفة أكثر انخفاضا. [وقد واصلت الحكومة نهجها في الوفاء بالتزاماتها المالية الداخلية والخارجية دون المساس بمقتضيات تحسين الأداء الإقتصادي، مما جعل الأردن نموذجا يحتذى به بين الدول في المصداقية والوفاء بالالتزامات]، وجعلنا نزن بتجرد قوة ومتانة استقرار الإقتصاد الأردني وسط بيئة إقليمية هشة واقتصادات شهدت مراجعات سلبية لتصنيفاتها الإئتمانية، مما عزز مكانة الأردن في الأسواق المالية العالمية، وقدم تفسيرا للطلب الذي فاق الحجم المستهدف بستة أضعاف على سندات " يوروبوند " التي أصدرها الأردن بقيمة 1.25 مليار دولار في الثلث الأول لعام 2023 ، اعترافا من الأسواق العالمية بصلابة الاقتصاد الأردني وبحصافة السياسات المالية والنقدية. وفي ضوء التطورات المذكورة في الإيرادات والنفقات، فقد تراجع العجز الأولي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023 ليصل إلى 2.6 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بنحو 2.7 بالمائة لعام 2022، ونحو 5.6 بالمائة لعام 2020.
سعادة الرئيس ،
حضرات النواب المحترمين ،
وقد كان الأداء الإيجابي لمختلف القطاعات الإقتصادية خلال النصف الأول من العام الحالي بمثابة شهادة على فعالية السياسات المالية والنقدية التي نفذتها الحكومة والبنك المركزي. فلقد هيأت هذه السياسات بيئة مواتية لتحفيز النشاط الإقتصادي واتساع قاعدته، وعززت استقرار الإقتصاد الوطني وعمقت الثقة به وفي بيئة الإستثمار السائدة. إذ ارتفع حجم تدفقات الإستثمار الأجنبي المباشر إلى المملكة بنسبة 21 بالمائة خلال النصف الأول من عام 2023 ، مقارنة بالفترة المماثلة من عام 2022 ، ليصل إلى 776 مليون دولار، مما ساهم في تغطية عجز الحساب الجاري في ميزان المدفوعات الذي انخفض إلى 7.1 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي في النصف الأول من هذا العام ، مقابل 13 بالمائة لنفس الفترة من العام الماضي. علاوة على ذلك، حافظت الإحتياطيات الأجنبية للبنك المركزي على مستوياتها المرتفعة وسجلت ارتفاعا ملموسا حسب آخر البيانات المتاحة لعام 2023 لتبلغ 18 مليار دولار مقابل 17.3 مليار دولار في نهاية عام 2022، وتغطي هذه الإحتياطيات مستوردات المملكة من السلع والخدمات مدة تزيد عن ثمانية أشهر. هذا فضلا عن احتواء الضغوط التضخمية، إذ أمكن السيطرة على معدل التضخم ضمن مستويات معتدلة وملائمة للنشاط الاقتصادي، فقد بلغ معدل التضخم 4.2 بالمائة في عام 2022، وهو يعد بين أقل معدلات التضخم المسجلة في المنطقة كما أنه يقل كثيرا عن معدل التضخم العالمي البالغ 8.7 بالمائة خلال نفس السنة. وواصل معدل التضخم الشهري انخفاضه خلال العام الحالي ليصل إلى 1.3 بالمائة في شهر تشرين الثاني من عام 2023 ، وليبلغ بذلك معدل التضخم المسجل خلال الشهور الأحد عشر الأولى من العام الحالي 2.1 بالمائة . وبالمجمل، تؤكد هذه المؤشرات على صلابة الإقتصاد الوطني ومرونته، وثقة المستثمرين ببيئة الإستثمار السائدة، فضلا عن قوة الدينار الأردني وجاذبية الودائع بالدينار، مدعومة بجهاز مالي ومصرفي راسخ ومتين .
سعادة الرئيس ،
حضرات النواب المحترمين ،
] وفي الوقت الذي تمكنت فيه الحكومة من تعزيز الإستقرار المالي والنقدي وتحقيق مستهدفاتها، فلا زالت هناك الحاجة إلى الاستمرار في تنفيذ الإصلاحات الإقتصادية والمالية وضبط أوضاع المالية العامة]. ورغم حالة عدم اليقين الجيوسياسية الإقليمية إلا أن الحكومة استندت إلى فرضيات مبنية على قراءة واقعية ودقيقة للتطورات الإقتصادية والسياسية. وقد جاء مشروع قانون الموازنة العامة لعام 2024 منسجما مع المسار الصحيح للإصلاحات الإقتصادية والمالية الذي انتهجته الحكومة منذ تشكيلها وأتت منسجمة مع السياق الوطني وخصوصياته بعيدا عن التصورات والحلول الجاهزة أو المرحلية أو تلك المعدة في الخارج. [ولا يخفى على حضراتكم أن التوصيف الدقيق المتجرد لواقع الإقتصاد والفهم العميق للتحديات المالية قد مكن الحكومة من تحديد ما يحتاج إليه الإقتصاد الوطني من إصلاحات هيكلية وما نسعى لتحقيقه والوصول إليه]، فالإستقرار الإقتصادي لم يتأت بشكل عفوي وإنما هو نتاج سياسات الحكومة الحصيفة .
إن إيمان الحكومة العميق بالإصلاح المالي يتطلب الموازنة الواقعية بين متطلبات المحافظة على استقرار الإقتصاد وضبط الإنفاق العام من جهة، وبين تلبية الإحتياجات وتوفير الخدمات الحيوية، في إطار من المرونة اللازمة للتعامل مع التحديات في شتى المجالات، من جهة أخرى.
وفي هذا المجال، فإن المسؤوليات الجسام التي نتحملها تملي علينا التأكيد على أن تبني سياسات مالية توسعية أو إجراء تخفيضات غير مدروسة على الضرائب سيترتب عليها في الوقت الحالي تفاقم عجز الموازنة وارتفاع الدين العام إلى مستويات غير مستدامة، مما سيزيد الإنفاق على خدمة الدين العام، ويضطر الحكومات في المستقبل إلى فرض الضرائب التي ستثقل كاهل المواطنين وخاصة الطبقة الوسطى، وهذا ما لن تسمح به هذه الحكومة.
سعادة الرئيس ،
حضرات النواب المحترمين ،
تشير توقعات المؤشرات الإقتصادية الرئيسية لعام 2024 إلى استمرار تعافي اقتصادنا الوطني مدفوعا برؤية التحديث الإقتصادي ومدعوما بالإصلاحات الهيكلية الرامية إلى حفز النمو. فعلى الرغم مما تشهده المنطقة من أحداث اعترتها، إلا أننا نتوقع استمرار الإقتصاد الوطني بالنمو في عام 2024 بنحو 2.6 بالمائة بالأسعار الثابتة في ضوء مواصلة تنفيذ الإصلاحات الهيكلية. ومن جانب آخر، يتوقع استمرار معدل التضخم المعتدل في عام 2024 بحيث لا يتجاوز 2.7 بالمائة ليشكل دعامة رئيسية للإستقرار المالي والنقدي، ومؤشرا على نجاح الحكومة في الحيلولة دون تراجع القوة الشرائية للمواطنين والحفاظ على الطبقة الوسطى التي كانت ستعاني بشكل كبير لو ارتفع معدل التضخم لمستويات أعلى . كما تشير التوقعات إلى تراجع عجز الحساب الجاري إلى 6.5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي مع تراجع عجز الميزان التجاري وارتفاع تحويلات الأردنيين العاملين في الخارج وزيادة الإستثمارات الخارجية. [ومع ذلك، فلا بد من الإشارة إلى أن بعض المخاطر ما زالت تهدد مسار تعافي النمو خاصة مع تطورات الأحداث في منطقتنا بالإضافة إلى التوترات العالمية وتأثيراتها على سلاسل الإمداد وأسعار المواد الأساسية والطاقة وانعكاساتها على معدلات التضخم وأسعار الفائدة]. وفي الواقع ، فإن حالة عدم اليقين الإقليمي شكلت التحدي الأكبر الذي واجه الحكومة في وضع فرضيات هذه الموازنة ضمن إطار مالي واقتصادي دقيق في ظل وجود احتمالات مفتوحة لتطور واتساع الأحداث في المنطقة – لا سمح الله- وتداعيات ذلك على النمو واستقرار الإقتصاد .
سعادة الرئيس ،
حضرات النواب المحترمين ،
وتأسيسا على ما تقدم من معطيات سياسية واقتصادية، وانطلاقا من التوجهات الأساسية التي استندت إليها الحكومة في إعداد الموازنة العامة للسنة المالية 2024 ، أرجو أن أعرض لحضراتكم ملامحها الرئيسية وعلى النحو التالي :
أولاً: لقد شكلت الإصلاحات في النظام الضريبي والإدارة الضريبية في بعدها الإقتصادي القاعدة الرئيسية للحفاظ على الإستقرار النقدي لتحفيز النمو وزيادة الإعتماد على الموارد الذاتية لتغطية النفقات العامة. ومن هذا المنطلق، فإن مشروع موازنة عام 2024 يحمل في ثناياه الإستمرار بنهج الإصلاح المالي واستدامة الأداء الإستثنائي للأردن في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية في مجال المالية العامة بشكل تصاعدي وعادل، والتي حمت الأردن خلال السنوات الماضية من ويلات أطاحت باقتصادات دول أخرى.
لذلك، ستواصل الحكومة إجراءاتها الهادفة إلى توسيع القاعدة الضريبية وترشيد الإعفاءات الضريبية مقابل تعزيز الحوافز والمزايا وخلق البيئة الجاذبة للمستثمرين، وتطبيق الإصلاحات التشريعية التي أقرها مجلسكم الكريم في الأعوام الماضية، والتطبيق الكامل لنظام الفوترة الإلكتروني ونظام التتبع، وفرض رقابة صارمة على التهريب عبر الحدود. وتأسيساً على ما تقدم، سترتفع إيرادات ضريبة الدخل في عام 2024 بنحو 325 مليون دينار أو ما نسبته 20 بالمائة في ضوء الجهود الهادفة للتركيز على رفع الإيرادات الضريبية دون رفع الشرائح الضريبية. كما سترتفع إيرادات ضريبة المبيعات بنحو 286 مليون دينار أو ما نسبته 6.4 بالمائة مدفوعة بالنمو الإسمي للناتج البالغ 5.1 بالمائة . وفي ضوء ذلك ، سترتفع مساهمة ضريبة الدخل في الإيرادات الضريبية في عام 2024 إلى 27 بالمائة مقارنة بنحو 22.3 بالمائة في عام 2020 ، في حين ستتراجع مساهمة إيرادات ضريبة المبيعات إلى نحو 66 بالمائة في عام 2024 مقابل 71 بالمائة في عام 2020 ، ويأتي ذلك تحقيقا للتوجيهات الملكية السامية بـ " تحسين الإيرادات عبر مكافحة التهرب والتجنب الضريبي والجمركي دون مغالاة على المواطن والقطاع الخاص، وهذا يتطلب الإستمرار في تطوير المنظومتين الضريبية والجمركية وأدواتهما، بشكل يضمن حقوق الخزينة العامة ، ويمكنها من تقديم الخدمات المثلى التي يستحقها المواطن".
ثانياً: إلتزاما بالتوجيهات الملكية السامية للحكومة لتعزيز تقدم سير العمل في تنفيذ رؤية التحديث الإقتصادي وخارطة تحديث القطاع العام وبناء القدرات في الجهات الحكومية المعنية، فقد تم رصد 348 مليون دينار للمشاريع ذات العلاقة في موازنة عام 2024 .
ثالثاً: ولأن توفير مصادر أردنية مستدامة للمياه يعتبر أولوية إستراتيجية أردنية، وتحقيقا للإستقلال المائي للأردن، والتزاما بالتوجيهات الملكية السامية، ستستمر الحكومة في إيلاء مشروع تحلية ونقل المياه ( الناقل الوطني) أولوية خاصة تم عكسها في موازنة عام 2024 باعتباره من أهم المشروعات الإستراتيجية في رؤية التحديث الإقتصادي .
رابعاً: ] في الوقت الذي يؤدي فيه الإنفاق العام دورا هاما في تحفيز النشاط الإقتصادي، فهو يوضح في الوقت ذاته الكلفة اللازمة لتحقيق الإستقرار الإقتصادي والإجتماعي والوفاء بمتطلباتهما]. لذلك تسعى هذه الموازنة في بعدها الإجتماعي إلى تعزيز العدالة الإجتماعية والتهيئة لحياة أفضل للمواطنين، وهذا يعكس التطور في وظيفة السياسة المالية من حيث استنادها إلى العدالة الإجتماعية في تحقيقها لمستهدفاتها. وقد توخت موازنة ع




