إذا جربت أن تبحث عن هذه الجملة على غوغل "ما حكم المنتحر؟" أو "ما حكم من قتل نفسه" –أو ما يرادفها بنفس المعنى- ستحصل على قائمة طويلة من الإجابات، ما بين الحكم بفسق الشخص إلى كفره وصولا إلى الحكم بأنه خالد مخلد في النار!
الأمر المثير للشفقة أن معظم النقاش والأسئلة التي تطرح هي حول ما هل تجوز الصلاة عليه أم لا؟ وهل هو كافر أم فاسق؟ بينما لا أحد يسأل لماذا قتل هذا الشخص نفسه؟ وكأن المنتحر يقتل نفسه للتلذذ والاستمتاع!
خلال السنوات الماضية شهدت معدلات الانتحار في العديد من الدول العربية ارتفاعا، ومنها الأردن. وكان تقرير لشبكة روسيا اليوم قد قال إن الوفيات الناتجة عن حالات الانتحار في الأردن خلال عام 2020 قد شهدت ارتفاعا ملحوظا لتصل إلى 152 حالة بزيادة 33 حالة عن عام 2019، الذي وصل فيه عدد حالات الانتحار إلى 119.
جميعنا نواجه مشاكل في الحياة، سواء في العمل أو الدراسة أو الأسرة، وفي منطقتنا العربية فإن الكثير من دولنا تعيش أوضاعا مضطربة، مع ارتفاع الغلاء وتكاليف المعيشة، وتراجع فرص العمل وخاصة مع جائحة كورونا، مما يضع الكثيرين من الناس تحت ضغط هائل.
تحت كل ذلك قد يصاب الشخص بالاكتئاب، وهذا قد يدفعه إلى العديد من الأفكار، قد يتساءل عن جدوى الوجود، وحتى أيضا قد يتساءل عن دور الخالق ولماذا لا ينقذ الناس؟ قد يشعر بالحنق والغضب تجاه مجتمعه، نفسه، وحتى خالقه! والنتيجة قد تكون تشكيكه في كل شيء!
المنتحر لم يقدم على هذا الفعل إلا لأنه يعيش ظروفا صعبة، تتفاعل مع كونه مصابا بالاكتئاب. الاكتئاب مرض حقيقي، وهو ناجم عن تغير مستويات النواقل العصبية في الدماغ. المكتئب لا يستطيع التفكير بإيجابية حتى لو حاول، دعك من مقولة أنك يمكنك تغيير مزاجك بتغيير أفكارك! هذا مستحيل، الأمر تماما كأن تقول لشخص مصاب بالسرطان إنه يمكنه علاج نفسه عبر التفكير بإيجابية والتخيل أنه غير مصاب!
المصاب بالاكتئاب هو مريض، وهو يحتاج مساعد طبية احترافية، تشمل الدعم النفسي والعلاجات، وإذا لم يتم علاجه فإن وضعه قد يتفاقم وقد ينتهي به الأمر بقتل نفسه.
المنتحر ضحية، ضحية مرض غير معالج، ومجتمع لم يقدم له الدعم النفسي، ضحية الفقر. المكتئب لا يستطيع التحكم بأفكاره، وهذه الأفكار قد تقوده للانتحار.
المنتحر ليس في النار، وحاشا لله أن يعاقب إنسانا بأمر خارج عن سيطرته!
الشيء المحزن في بحث غوغل الذي بدأنا به في المقال، هو أن الشخص الذي يفكر بالانتحار، ويدخل الانترنت ليبحث عن مساعدة، هو بكل تأكيد شخص يعاني ظروفا صعبا للغاية، ولكنه عوض أن يجد محتوى ينقذه ويساعده، يجد أن الناس مشغولون بحكم تكفيره وجعله خالدا مخلدا في النار! هم مشغولون بمكانه في الآخرة بدل أن ينشغلوا بمساعدته في مواجهة ظروفه الصعبة في الدنيا!
لذلك عوض الحصول على المساعدة، فسوف يطحن تحت الفتاوى الغبية التافهة، والتي لا تمت فعليا للإسلام بصلة، حول تكفير المنتحر.
المساعدة التي يحتاجها الشخص الذي يفكر في الانتحار هو أن يتم دعمه وحمايته من أن يؤذي نفسه، وتوجيهه لمراجعة الطبيب النفسي على الفور، فهو مريض، هو ضحية، ويحتاج للمساعدة، لا التكفير!
تعامل "المفتين" و"متصدري العلم الشرعي" مع موضوع الانتحار يطابق تماما طبيبا راجعه شخص مصاب بكسر في العمود الفقري، فأخذ الطبيب يؤنبه لأنه لا يمارس رياضة اليوغا!
فالشخص المكتئب الذي فقد إحساسه بالعالم وكفر بكل شيء لن يهتم إذا حكم عليه بالكفر، بل بالعكس فإن هذه الفتاوى والمقاربات ستزيد المشكلة لدى الشخص، وستؤكد له أن الدين في وادٍ والعالم الحقيقي في وادٍ آخر.
الاكتئاب والانتحار
في يونيو/حزيران الماضي قالت منظمة الصحة العالمية إن الانتحار لا يزال أحد الأسباب الرئيسية للوفاة حول العالم. وفي كل عام يفوق عدد الأشخاص الذين يموتون انتحارا عدد الوفيات منهم بسبب فيروس الإيدز أو الملاريا أو سرطان الثدي أو حتى الحرب والقتل.
ووفقا للتقديرات، فإنه في عام 2019 لقي أكثر من 700 ألف شخص حتفهم انتحارا، أي ما يعادل وفاة واحدة من كل 100 وفاة.
كل حالة انتحار هي مأساة بحد ذاتها، وهي تترك ورائها عائلة الضحية وهم يعانون نفسيا واقتصاديا، إذ كثيرا ما يكون المنتحر هو المعيل المالي للأسرة، أو ربها.
وقتها قال مدير عام منظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، إنه لا يمكن تجاهل الانتحار: "كل حالة انتحار هي مأساة بحد ذاتها. واهتمامنا اليوم بمسألة الوقاية من الانتحار أهم من أي وقت مضى بعد مرور أشهر عديدة على التعايش مع جائحة كـوفيد-19، وما يرتبط بها من عوامل خطر عديدة للانتحار، مثل خسارة الوظائف والضغوط المالية والعزلة الاجتماعية، وجميعها ما زالت ماثلة بقوة".
تغيرات حادة في القناعات
إحدى علامات وجود مشكلة في الصحة النفسية هو حدوث تغيرات حادة في القناعات أو الأفكار، ولهذا فإن التشكيك بجدوى الحياة وغيرها من سلوكيات لم تكن موجودة لدى الشخص، قد تشير إلى تعرض الشخص لمشكلة نفسية عميقة، كالاكتئاب.
مرة أخرى فإن من يتصدرون الفتوى يخالفون المنهج النبوي، فقصة الفتى الذي أتى النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم معروفة، والذي قال له يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فزجره من حول النبي الكريم، ولكن النبي قال: ادنه، فدنا منه قريبا، ثم سأله أتحبه لأمك؟، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لأمهاتهم)).... قال النبي: أفتحبه لابنتك؟.. قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك،. ..... ثم وضع النبي يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرْجه، فلم يكن بعد - ذلك الفتى - يلتفت إلى شيء.
فالنبي الكريم لم يتعامل مع ظاهر المشكلة بل باطنها، وهذا هو هدف الدين. فالله لم يخلقنا حتى يضعنا في ظروف صعبة تدفعنا للاكتئاب والانتحار ليلقي بنا في الجحيم! حاشا لله! فهو أحب بنا وأرحم فينا من أنفسنا.
هناك الكثير في هذا العالم مما لا نعلمه أو نفهمه، ولن نفهمه على الأرجح أبدا، ولكننا نعلم أن الله لم يخلقنا عبثا، ولم يخلقنا ليعذبنا، وهو أمرنا بطلب العلاج، والاكتئاب مرض قابل للعلاج.
العديد من المؤسسات الطبية تقدم اختبارات لكشف الميول الاكتئابية، أو التفكير بالانتحار، وإذا كانت إجابات الشخص تشير إلى أنه يفكر بالانتحار فإنها تعطيه مباشرة رقم طوارئ للاتصال به فورا وذلك للحصول على مساعدة.
في وطننا الحبيب الأردن ندعو الجهات المعنية إلى توفير المزيد من الدعم النفسي لمرضى، خاصة أن نسبة كبيرة منهم من أصحاب الدخل المحدود أو من يواجهون مشاكل مالية، وسيكون من الصعب عليهم توفير المال للمراجعات والأدوية في القطاع الخاص، مما يجعلهم يحجمون عن زيارة الأطباء النفسيين.
يجب توسيع خدمات الصحة النفسية التي تقدمها وتديرها وزارة الصحة والجهات الحكومية، لتوفير المشورة النفسية والعلاج لهذه الفئات.
أتمنى في يوم من الأيام، أن نجد في نتائج البحث عن "ما حكم المنتحر؟" على غوغل، موقعا يكون جوابه "أنت منزعج! لا بأس، هون عليك يا صديقي.. أخبرنا ما الذي يضايقك، واتصل بنا على الرقم..."، فهذا هو الجواب الوحيد الذي يحتاج سماعه.




