كل صباح، تلمح عيني سارية العلم؛ فتداعب الكيان هموم
وطن، وعشق لذرات تراب تلاصقت على أرضه، واصطفت الكتف بالكتف معلنة انتصاراً على غدر
الزمان وقهره، تناظر العلم مرفرفاً في كل آن ولحظة، فيقتحم أبواب الذهن أفكاراً غزيرة
وخواطر جمة، وتفرج عنها الكرب للتحليق في الفضاءات الرحبة.
أقرأ عن معاني ألوان العلم الأردني، وأتساءل في قرارة نفسي عن حالها ومآلها
في حاضر البلاد والعباد. أعلم أن الألوان ليست هي إلا دلالات ورموز، وكل لون يحكي قصة
حقبة تاريخية ومعاناة أجداد ودروب أمل. فاللون الأسود يشير إلى راية الدولة العباسية،
واللون الأبيض إلى راية الدولة الأموية، واللون الأخضر إلى راية الدولة الفاطمية، واللون
الأحمر إلى الثورة العربية الكبرى، ونجمة سباعية توسطت مثلثاً أحمر دلالة على وحدة
يخالطها عبق دماء الشهداء الأخيار من عقود انصرمت. كل لون يروي قصصاً من ماض له ما
له، وعليه ما عليه، إلا أن الثابت فيها هو المبادئ الراسخة التي ازدحمت بها. تم اختصار
هذه المبادئ على شاكلة علم لتبقى أبد الدهر مغروسة في نفوس المنتمين إليه، ويسيرة الوصول
كلما اشتدت المصائب والمحن، وخالدة في خيالات الخليقة ساعة اضطراب الظروف وانفراجها.
لم يكن المقصود منها ألواناً عشوائية، بل ثوابت ومعتقدات وحقائق وبوصلة للاتجاه السليم
عند افتقاده والتيه عنه.
أطالع الألوان وأقلب معانيها وأتأمل فيها عن كثب، وأول الأسئلة التي أواجه بها
ذاتي هي مدى انعكاس ما أقرأ على واقعنا وحياتنا، وإلى أي مدى أؤمن بما أعي وأستوعب،
وهل حقاً علمنا وعملنا بما أريد من ألوان العلم؟! هل بات العلم ألواناً ذات معان على
سارية وحقيقة غير موجودة في تصرفاتنا؟! هل انتمينا له فعلاً، أم كان الانتماء أقوالاً
وشعارات تلصق على زجاج السيارات وجدران المباني ؟! هل الثبات على المبدأ حقيقة صرفة
في سلوكياتنا أم نتلون ونختلف عنها وفقاً للمعطيات والأحداث؟! كل تلك الأسئلة عصفت
بالجسد، وأعيت الفؤاد بحثاً عن مواطن الخلل. فالإجابات كانت مؤلمة ومحزنة ومحركة لخلجات
القلب حرقة وأسى.
ليس الانتماء بشعارات وأغان وأهازيج فقط! ليس الانتماء بمؤتمرات صحفية وأضواء
كاميرات ومقالات تنشر هنا وهناك، ولا بكلام نحدث به قبل النوم، ولا بأساطير قيلت يوماً
ونسيت. فألوان العلم لم يقع اختيارها تشجيعاً على التضحيات الجسام وكفى، بل كانت مخاطبة
لصغائر الأعمال أيضاً. عند امتناعنا عن إلقاء القمامة في إحدى شوارع الوطن، نحن انتمينا
بحق. عند محافظتنا على المال العام، كان ولاؤنا واقعاً. عند قيامنا بحماية مدخرات وكنوز
بلد، أصبح العلم حقيقة ومنهج حياة. عند التزامنا بدستور وقوانين، تضحي الدولة شهيقها
وزفيرها عزفاً لمقطوعة ولاء وانتماء. والحديث هنا يشملنا مواطنين ومسؤولين، وإن كان
التشديد على كل من استلم موقع مسؤولية وتصدى له.
فمثلاً العلم الأردني كان نفسه العلم
الفلسطيني في مرحلة من المراحل، فأصبح الاختلاف اليوم نجمة وتشابهت الألوان وترتيبها
من بداية الأعلام إلى نهايتها. ألا يعد ذلك دليلاً دامغاً على رسالة الأجداد في تشابه
الشعبين، وحملهم لنفس المبادئ والأهواء، وقتالهم في خندق واحد؟! تدرك ذلك، ولا تكاد
وسيلة تواصل اجتماعي تخلو من تعليقات ومهاترات بين بعض أفراد كلا الشعبين، واتهامات
لغدر وخيانة بين هذا وذاك!
العلم الأردني سيبقى خفاقاً في السماء، عالياً فوق قمم الجبال، ثابتاً راسخاً
شموخاً وعزة. وراية العلم تنتظر حملتها بكل شوق ليل نهار أن يعملوا بمبادئه، ويعلوا
كلمته، ويفعلوا معتنقه. العلم ليس قطعة قماش ملونة تلبس ساعة فرح وساعة حزن، ولا صف
ألوان في كتاب مؤلف، بل هو منهج حياة وحكاية وطن تدعونا جميعاً أن نلتف حولها وندافع
عنها فعلاً وقولاً! [email protected]




